الصيام ودوره في ترابط المجتمع وتكافله

د. أحمد عبد الحميد عبد الحق (كاتب جديد)
منافع الصوم:
إن الصيام فضائله ومنافعه كثيرة ومتعددة، ومن تلك المنافع تحقيق مبدأ الترابط والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم، وهي منفعة تنتج عن تشبع قلب المسلم بالتقوى فيجعله يستشعر حقيقة الجسد الواحد الذي يربط روحه بباقي المسلمين فيشعر بما يشعرون، يتألم لما يصيبهم من فاقة فيفرغ من دلوه في دلائهم، بل قد ترتقي نفسه في التقوى إلى درجة أن يؤثر الآخرين من المؤمنين على نفسه كحال السابقين الذين قال الله عز وجل في وصفهم: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر:9) أي حاجة ماسة وشديدة لما يؤثرون به غيرهم على أنفسهم.
الترابط والتكافل الاجتماعي:
ومعلوم أن المسلمين مدعوون للترابط والتكافل الاجتماعي فيما بينهم في كل الأحوال، فإن الإسلام دين اجتماعي يتوجه برسالته إلى المجتمع، ويضع نظمه وتشريعاته لإصلاح المجتمع، ويتعامل مع الفرد على أنه لبنة من لبنات المجتمع، لا يصلح المجتمع إلا بترابط وتراص وتماسك تلك اللبنات، ولا ينصلح أفراده إلا من خلال هذا الترابط والتماسك، ولذا جاء الأمر من الله عز وجل:" (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103)، يقول ابن المنذر:" قد كره إليكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي لكم إن استطعتم" (تفسير ابن المنذر: 1/ 320).
وجاء تمثيل النبي، صلى الله عليه وسلم، للمسلمين في ترابطهم وتكافلهم وتعاونهم بالجسد الواحد فقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (صحيح مسلم: 4/ 1999)، ولأهمية التزام المسلمين بهذا التواد والتراحم والتعاطف جعله البيهقي من شعب الإيمان الذي لا يكمل ولا يتم إلا به (انظر 11/ 308).
وطبق النبي، صلى الله عليه وسلم، هذا المعنى على نفسه ليس مع المؤمنين فقط، وإنما مع كل من حوله حتى قبل إسلامه، ووصفُ زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها له يؤيد ذلك، حيث قالت له لما رأت تخوفه عندما رأى المَلَك لأول وهلة ففزع من رؤيته: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" ( صحيح البخاري :1/ 7). ثم وضع صلى الله عليه وسلم بعد تأسيس دولة الإسلام بالمدينة قاعدة التكافل التام بين الأمة فقال صلى الله عليه وسلم: "أطعموا الجائع، وعُودُوا المريض، وفكوا العاني" (سنن أبي داود :5/ 21). وقال أيضا: "أيُّما أهل عَرَصةٍ أصبح فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله تعالى" (مسند أحمد 8/ 482).
أهمية شهر رمضان في تعزيز الرُقيّ الروحي
أشكال الترابط والتكافل في رمضان:
ثم تجاوز صلى الله عليه وسلم التكافل في المطعم والمشرب إلى كل احتياجات الإنسان فقال: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" (مسند أبي يعلى الموصلي:2/ 326) يقول أبو سعيد الخدري راوي الحديث: "فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أن لا حق لأحد منا في فضل" وتلك أسمى مراتب التكافل الاجتماعي، ولكن هذا الترابط وذلكم التكافل يزداد في شهر رمضان شهر الصيام الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهر المواساة، والتي تعني "أن يُنزل المسلم غيره منزلة نفسه في النفع له والدفع عنه" (التعريفات للشريف الجرجاني ص: 236). ويحصل ذلك في رمضان لازدياد الإيمان لدى الصائمين وارتفاع درجة التقوى نتيجة لكثرة إقبالهم على الله عز وجل في هذا الشهر دون سواه.
وكان رسولنا، صلى الله عليه وسلم، خير مثال وقدوة في ذلك، إذ كان كما روى ابن عباس، رضي الله عنهما "أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه القرآن، فإذا لقيه جبريل كان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" (صحيح البخاري :1/ 8) والجود هو سرعة العطاء. يقول القاضي عياض السبتي في شرح هذا الحديث: وقوله " فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة" هذا بحكم تجديد الإيمان واليقين فى قلبه، يملأ فاه الملك، وزيادة ترقيه فى المقامات، وعلو الدرجات، بمناقشته ومدارسته للقرآن معه (إكمال المعلم بفوائد مسلم: 7/ 273). ويقول ابن الملقن الشافعي: "وهذا منه صلى الله عليه وسلم (أي الجود) امتثال لقوله تعالى في تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول التي كان أمر الله بها عباده، فامتثله صلى الله عليه وسلم بين يدي مناجاة الملك" (التوضيح لشرح الجامع الصحيح: 2/ 359).
وقال البيضاوي: "كان أجود ما يكون في رمضان وحينما لقيه جبريل، حتى سبق الريح المرسلة التي أرسلها الله تعالى بالبشرى في السرعة والمبادرة إلى الانقطاع وإيصال الخير" (تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة: 1/ 513).
بل امدت فيوضات النبي صلى الله عليه وسلم في التكافل الاجتماعي وقت الصيام لتشمل غير المسلمين من البشرية، فعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما أنه: "كان إذا دخل رمضان أطلق كل أسير، وأعطى كل سائل" يقول الصنعاني في كتابه (التنوير شرح الجامع الصغير 8/ 390): يفعل ذلك إكراما للشهر بألا يضيق فيه على أحد.
الوصية العملية للتكافل:
ثم حض صلى الله عليه وسلم المسلمين على تطبيق مبدأ الترابط والتكافل في وقت الصيام من خلال بيان فضله فقال: "من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" (السنن الكبرى للنسائي :3/ 375) وقد ذكر بعض العلماء أن المراد بتفطيره أن يشبعه؛ لأن هذا هو الذي ينفع الصائم طول ليله، وربما يستغني به عن السحور، وإن كان المعدم ممكن أن يحصل على هذا الفضل بإفطاره ولو بتمرة واحدة (ابن عثيمين: شرح رياض الصالحين 5/ 315) ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:"إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا وربما قال: حتى يشبعوا" (سنن الترمذي :3/ 145).
وهذا النوع من التكافل يجعل المعطي أو المطعم أحرص على الإعطاء طمعا في الثواب من الآخذ، ولذلك كان ابن رسلان الشافعي الرملي يقول: "إن من حضر عند صاحب الطعام لا يفطر من الصيام إلا من طعامه أو شرابه، ولقد كان بعضهم إذا دعاه أحد ليفطر عنده يحترص ألا يفطر إلا على طعامه، وإن دخل عليه وقت الإفطار قبل أن يأتي إليه وتيسر له أكل شيء فلا يفطر إلا عند من دعاه؛ ليحوز صاحب الطعام أجر من فطر صائما فله مثل أجره" (شرح سنن أبي داود لابن رسلان :15/ 535).
التكافل للغني والفقير:
وإذا كانت الأعمال في الإسلام منوطة بالنوايا فإن الله عز وجل لم يحرم الفقير من هذا الفضل إن سعى للفوز به، ففي شعب الإيمان للبيهقي أنهم لما سألوه: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم. فقال صلى الله عليه وسلم: "يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن أو تمر أو شربة ماء" (شعب الإيمان: 5/ 224). وهذا يعمق من التكافل والترابط حتى بين الفقراء والمحتاجين أنفسهم.
في استقبال شهر رمضان.. مقومات تربوية
صور من تكافل الصحابة:
وامتثل الصحابة والتابعون لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وتأسوا به في المسارعة في تحقيق مبدأ التكافل وإطعام الطعام للمحتاجين، فهذا واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول: حضر رمضان ونحن في أهل الصفة فصمنا، فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل السعة فأخذه فانطلق به فعشاه (تاريخ دمشق لابن عساكر: 16/ 457).
وهذا حماد بن أبي سليمان يُروى أنه كان يضيف في شهر رمضان خمسين رجلا كل ليلة، فإذا كانت ليلة العيد كساهم، وأعطى كل رجل منهم مائة درهم (ابن عدي الجرجاني: الكامل في ضعفاء الرجال ج3 ص7).
وكان الشافعي يقول: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم (ابن رجب: لطائف المعارف ص 69).
الرحمة التي يولدها الصيام:
والصيام يولد لدى الصائم" الشفقة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، فهو عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا من أولئك البائسين، فيرقّ قلبه لهم ويشفق عليهم، وفي ذلك تكافل للأمة وشعور بالأخوة الدينية" (شمس الدين الشربيني: السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير1/ 118).
والإنسان لا يقدر النعمة حق قدرها إلا عند فقدانها أو عند احتياجه إليها، وهو عندما يصوم يفقد نعمة الشبع والري، ويحس بآلام الجوع والعطش، وهذا الإحساس يجعله يقدر حالة الفقراء والمحتاجين فيحمله ذلك على مساعدتهم. وفي ذلك يقول البيهقي: "وذلك أن الناس إذا كانوا متمكنين طول الدهر ليلا ونهارا من الأكل والشرب نسوا الجوع والعطش وغفلوا عن شدتهما، وبحسب ذلك يجهلون موقع نعمة الله عليهم بالطعام والشراب، ويغفلون عن شكرها" (شعب الإيمان 5/ 190).
رمضان وروح المحبة:
كما يعمل الصيام على إشاعة روح المحبة والإخاء وروح التعاون في المجتمع من خلال ذلك الجو الإيماني الذي يعيشه الصائمون، والذي من شأنه أن يوثق العلاقات بين قلوبهم، ويشيع فيهم المحبة والإخاء وروح التعاون؛ إذ إن المؤمن يصوم مع إخوانه في جو جماعي متآلف، فالجميع يصومون في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد، ويستشعر كل فرد في المجتمع ما يستشعره الآخرون من الناحية الوجدانية (د. عماد الدين إبراهيم: الصوم تربية للنفس وبناء للشخصية) وذلك غاية الترابط.
رمضان والتربية على الإنفاق:
كما أنه يجعل الإنسان يتقي البخل، وهو المقصود من قول الله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) كما جاء في بعض التفاسير، يقول البيهقي:" وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى: لعلكم تتقون البخل وإهمال المحتاجين والتغافل عنهم، وذلك أن الجوع والعطش أمران جبل الناس عليهما، وفيهم أغنياء وضعفاء، فإذا استمر للأغنياء الأكل والشرب فهؤلاء لم يدروا ما الجوع، ففرض عليهم مدة حتى إذا أحسوا من تأخر الطعام عنهم باليسير من الجهد تذكروا بذلك حال من يطوي يوما بليلته أو أكثر من ذلك، لا صائما ولا طاعما لشدة فقره، فيصير ذلك سببا لعطفهم على الضعفاء والإحسان إليهم وشكرهم نعمة الله عندهم، ولا شك أن المواساة والإحسان من أبواب التقوى" ( شعب الإيمان 5/ 190).
ويقول ابن الهمام:"ومنها: كونه موجبا للرحمة والعطف على المساكين فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في عموم الأوقات، فتسارعُ إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه فينال ما عند الله تعالى من حسن الجزاء (فتح القدير 2/ 301).
ولذلك روي أن يوسف عليه السلام كان يكثر الصيام وهو على خزائن الأرض، بيده المالية والتموين، فسئل في ذلك فقال: أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقير.
وفوق ذلك فإن الصيام يدرب نفوس الصائمين على الشرف والعفة، ويؤهلها لعمل الخير، ويبعدها عن الشر، فالصائم الخائف من ربه لايخدع ولا يغش ولايظلم ولا يهضم حقا، ولا يسعى للفساد بين الناس، ولذلك كان جابر رضي الله عنه يقول: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء"(شعب الإيمان 5/ 247).
ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله:" والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث" (الوابل الصيب من الكلم الطيب: ص26) ولا ينشر الترابط والتكافل بين أفراد المجتمع مثل شيوع تلك الفضائل.
تأثير الصيام على الشهوات:
كما أن الصيام يخفف الشهوة التي هي أم المعاصي، ويضيق مجاري الدم، ويخمد نيران الشهوات، ويقلل فرص إغواء الشيطان لابن آدم، وبذلك تقل الجرائم التي تمنع ترابط المجتمع، يقول ابن القيم: "لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدَّتها وسَوْرتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتُحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه، فهو لجام المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين" (زاد المعاد في هدي خير العباد: 2/28-29).
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (صحيح مسلم 2/ 1018).
الصوم وتربية النفس:
والصوم يربي النفس على الصبر وقوة الإرادة والعزيمة، فالصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كما يتجلى في الصوم، الذي هو حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وصبر الإنسان يعصمه من الاندفاع والتهور، وهذا يؤثر إيجابيا على الترابط بين الناس وانعدام العداوة بينهم.
الصيام وموائد البهجة:
وأخيرا فإن الصيام يساعد على ازدياد الألفة والمحبة بين الصائمين، وخاصة عندما يجتمعون على موائد الإفطار الجماعية، سواء أكانت على مستوى الأسرة أو العائلة أو في موائد الإفطار الخيرية التي تعج بها كثير من المدن الإسلامية طوال شهر رمضان، فالجميع يظهر عليهم البهجة والفرحة والسرور بمجرد أن يجلسوا أمام تلك الموائد، مع أن طعامها وشرابها لا يختلف عن الأطعمة والأشربة التي يتناولونها دائما، بل قد تكون أقل منها، ولكن هكذا تكون بهجة الطعام والشراب عندما يكون عبادة وقربة إلى الله عز وجل.
وأخير
وم
ف