مشاهد تسليم الأسرى.. معركة أخرى مبدعة من «طوفان الأقصى»
لم تكن عملية «طوفان الأقصى»، التي انطلقت صباح 7 أكتوبر 2023م، مجرد عملية عسكرية نوعية، وإنما صارت بتطوراتها اللاحقة مجموعة من المعارك المتصلة؛ بحيث أصبحنا أمام معركة عسكرية في الميدان، ومعركة إعلامية أثناء مجريات العدوان، ومعركة تفاوضية في جولات متعددة، ثم أمام معركة حقيقية عبر عدة محطات من مشاهد تسليم الأسرى.
وفي كل معركة من هذه المعارك رأينا إبداعًا منقطع النظير، وصمودًا يفوق الإمكان، وإصرارًا يتزايد مع شراسة العدوان؛ فلم يكن السلاح فقط هو ما يجري التواجه به بين احتلال غاشم وأصحاب الأرض الصامدين، وإنما حضر أيضًا تجاذبُ الإرادات وعضّ الأصابع كما حضرت السرديات والرمزيات!
وهنا يمكن القول: إن مشاهد تسليم الأسرى معركة أخرى من معارك «الطوفان» المتعددة والمتداخلة، ومعركة أثبتت فيها المقاومة صمودها وإبداعها، وثبَّتت فيها سرديتها ورسائلها ورمزياتها.
خصوصية معركة التبادل
وإذا كان لكل معركة من معارك «طوفان الأقصى» طبيعتها وخصوصيتها، إذ ميدان المواجهة غير ميدان الإعلام غير ميدان التفاوض؛ فإن معركة تبادل الأسرى ومشاهد التسليم لها أيضًا طبيعتها وخصوصيتها، وذلك يتمثل في أنها:
- معركة تجري على الهواء مباشرة: وليس خلف الجدران أو في أنفاق قد تحجب وقائع المعركة؛ ولهذا فإن كل خطوة هنا محسوبة بدقة، ولها وزنها، وتصل مباشرة لمن هي موجهة إليه، كما أن هذا البث المباشر يمثل اختبارًا حقيقيًّا للإعداد والتنفيذ.
- معركة يجري فيها تبادل الرسائل لجميع الأطراف داخليًّا وخارجيًّا: فمشاهد التسليم ليس مقصودًا بها فقط الاحتلال الغاشم، وإنما تمتد رسائلها لكل من يمت بصلة لساحة الصراع؛ داخليًّا من أبناء القطاع بأن هذا حصاد صمودهم.. وداخليًّا أيضًا من المتربصين المنتظرين فشل المقاومة، بأن أملهم قد خاب.. ودوليًّا ممن أمدوا الكيان بجميع أنواع الدعم، بأن كيانكم عاجز عن تحقيق أهدافه.. فضلاً عن الرسائل الموجهة للكيان نفسه.
- معركة تُوجِز ما تم في المرحلة السابقة، وهي المواجهة بالميدان: فلو كانت المقاومة انكسرت، لما رأينا مشاهد التسليم هذه، وبما تعكسه من عبقرية في الإعداد والتنفيذ، ومن قدرة على السيطرة والتحكم وإعادة بناء الصفوف.
- معركة تؤسس لما سيتم في المرحلة الآتية، وهي «اليوم التالي»: فما زالت المقاومة صاحبة القرار والتأثير، ولا يمكن تجاوزها أو تهميشها.
رسائل على مستوى الصف الداخلي
ومشاهد تسليم الأسرى محملة بالعديد من الرسائل أيضًا على مستوى الصف الداخلي الغزاوي، وأهمها:
- إعادة الاعتبار للشعب: وذلك بأن يشاهد ويلمس ثمرات إنجازه وصموده، ولهذا قال حازم قاسم، الناطق باسم «حماس»، لـ«الجزيرة مباشر»: رسالتنا خلال مشهد التسليم أن صاحب الإنجاز هو الشعب الذي كان حاضرًا إلى جانب المقاومة.
- إظهار التفاف الحاضنة الشعبية حول المقاومة: من خلال الحرص على التسليم ميدانيًّا، وهو التسليم الذي حضرته حشود غفيرة، وعبّرت هذه الحشود عن تمسكها بخيار المقاومة، وهتفت تحية لـ«كتائب القسام»، وحرص كثيرون لا سيما من الأشبال والشباب، بل والفتيات، رجال ونساء الغد، على التصوير مع رجال «القسام»، بما لذلك من دلالة الفخر والاعتزاز.
- تأكيد أن المقاومة لجميع الشعب الفلسطيني: وليست فقط لغزة، رغم أنها الأساس؛ وذلك من خلال أن قائمة الأسرى المفرج عنهم هم من جميع مناطق الأرض المحتلة، من الضفة وغزة والقدس.
- تعدد أماكن التسليم: فقد شملت ساحة السرايا، ميدان فلسطين، جباليا، بيت السنوار بخان يونس، ميناء غزة.. بما يؤكد السيطرة على كافة مناطق القطاع، ويذكّر بالدمار الكبير الذي لحق به، إضافة إلى رسالة الوفاء للقيادة، وقد التفتت «القناة 12 الإسرائيلية» لذلك وقالت: اختيار مواقع التسليم يؤكد قدرة «حماس» على السيطرة على هذه المناطق رغم الضربات التي تلقتها؛ واختيار جباليا ومنزل السنوار ومخيم الشاطئ والميناء مواقع لتسليم الرهائن لم يكن عشوائيًّا.
رسائل على مستوى مخاطبة العدو
وأما رسائل مشاهد تسليم الأسرى، فيما يخص الكيان الصهيوني، فهي رسائل واضحة وبارزة، بحيث جعلت محللين «إسرائيليين» يتساءلون عن حقيقة ما يزعمه نتنياهو عن «النصر المطلق»، وعما كان يفعله جيش الكيان في القطاع خلال الـ15 شهرًا، فضلاً عن إظهار الإعجاب بقدرة المقاومة على إخراج مشهد التسليم!
لقد جاءت مشاهد التسليم داحضة السردية «الإسرائيلية» عن انكسار المقاومة، ولخصت شبكة «سي إن إن» هذه الرسالة بالقول: «حماس» بدت وهي تحاول إظهار أنها لا تزال تسيطر بشكل كبير على غزة رغم ما تعرضت له خلال الحرب.. كما أن المخرجة «الإسرائيلية» عينات فايتسمان، ومن واقع خبرتها المهنية، قالت: يا للإخراج! الديكورات، الملابس، الإعداد المسرحي، هكذا يتم إخراج الانتصار المطلق!
نعم، في مشاهد التسليم حضرت الرمزيات التي كشفت عوار سرديات الكيان، وأكدت سردية المقاومة؛ فظهرت «وحدة الظل» المسؤولة عن حماية الأسرى، وبندقية «التافور» التي غنمتها المقاومة، إضافة إلى ظهور بندقية «الغول» ورمزيتها الكبيرة، فضلاً عن لافتات المنصة التي حملت صور قادة «الطوفان»، واللافتات الأخرى التي وُضعت أسفل المنصة وعليها صور مجرمي الكيان وعبارات بالعبرية تصفهم بأنهم فشلة وأن الصهيونية لن تنتصر.
ولهذا، وبعد عملية الإفراج عن 3 أسرى؛ أحدهم «إسرائيلي» يحمل الجنسية الأمريكية، اعتبرت «حماس»، في بيان لها، أن عملية التسليم أمام منصة تحمل صور القادة الشهداء الضيف وإخوانه أعضاء المجلس العسكري، رسالةُ عهدٍ ووفاء أن رجال «القسام» باقون وسيكملون المشوار.
وكان لافتًا ما ظهر عليه أسرى وأسيرات الكيان من صحة جيدة ومظهر أنيق؛ مما يدحض مزاعم الكيان عن وحشية المقاومة أو اتخاذها الأسرى دروعًا بشرية، بل ويعري سياسات الاحتلال اللاإنسانية حين تُقارَن هذه الصور بما ظهر عليه الأسرى الفلسطينيون من وهن وهزال، وما قالوه من شهادات مروّعة عن سوء المعاملة داخل المعتقلات!
وأما ظهور المقاومة بحشود كبيرة من أفراد مقاتليها، وبتنظيم وترتيب دقيقين، ثم حالة التناغم بين «كتائب القسام» و«سرايا القدس»؛ فلا تخفى دلالته عن ثبات المقاومة وإعادة تنظيم الصفوف ووحدة تشكيلاتها، وهي رسالة مهمة لعدو يتحين الفرصة لاستئناف العدوان، ويبدو أنه لم يتعلم الدرس.