بين العدل والمساواة!
كاتب المدونة: محمد ذيشان أحمد القاسمي (*)
مِن الناس مَن يقصر إدراكه عن بعض المفردات الأساسيّة لأعماله وأشغاله في حياته؛ فيخطئ من حيث لا يدري في اتخاذ القرارات، وفي التعامل مع الآخرين، ويؤدي هذا في معظم الأحيان إلى خسرانٍ، لا يكون في الحُسبان، والحال أنّه يسعى سعياً وراء نجاح يذكره كلّ لسان، ويكدّ كدًّا لفلاحٍ يعجز عن وصفه البيان.
ولستُ هنا بصدد سَرْد كلِّها أو جُلِّها؛ لأنها لا آخر لها؛ وإنما أقصد لفتَ الانتباه نحو مُفردَين تعمّ بهما البلوى في حياة الأكثر من سادة الأمراء والحكماء، والمديرين، والوزراء، والآباء، والأساتذة، وبالأحرى كلّ من بيده زمام الأمور، والمفردان هما العدل والمساواة.
فما مِن مسؤول أو مُشرِف أو مدير إلّا وهو يحتاج لتأدية الحقوق، وتوزيعها بين مَن يعمل أو يشتغل تحت مسؤوليته وإشرافه وإدارته، فإنه لو لم يدرك مفهوم المفردين العدل والمساواة، حقّ الإدراك، يخشى عليه ارتكاب الظلم، ويليه تفويت أصحاب القدرات القيّمة أي خسران بعضه فوق بعض! ولم يحصل هذا إلّا بصُنع نفسه، فسَعيه لا يُثمر، وتذهب جهوده سُدى، ولا تجدي نفعاً، ويصبح هو مثالاً للمثل العربي المعروف: «يداك أوكتا وفوك نفخ».
والآن يَحسُن بنا أن نُلِمّ إلماماً بالمفهوم المعروف في العُرف للمفردين؛ حتى أكون من يشخص الداء ويضع الدواء، ويخبر عن مكامن المُشكلة ويُوضِّح مواضع الحلّ.
أمّا العدل هو إعطاء كل ذي حقٍّ حقّه الذي يستحقه ويستأهله –لمواهبه وقدراته– بِغَضِّ النظر عن القليل والكثير أو الأقلّ والأكثر، فمُجمل القول: هو من باب إنزال الشيء منزلته، وهو الميزان الذي تستقيم به شؤون الحياة، إن صحّ التعبير.
والمساواة -بمعناها السلبي وهو مرادي– هي التساوي بين الشريكَيْن في إعطاء الحقوق، على أساس الشركة فحسبُ، بصَرْف النظر عن تساوي أهليّة كل واحدٍ منهما في شيء محدَّد سواءً بسواء، أو يكون بينهما بَونٌ شاسعٌ في الكفاءات والقدرات والأعمال.
بعد هذا لو أراد أحد أن يعرف الفرق بينهما لبان له دون جهد في التفكير والتدبير.
وتُوجد هناك صنوفٌ من الأمثلة، وضروبٌ من الشواهد يقتنع القارئ الواعي والمثقف المُدرك من خلالها بما سبق، ولكن ههنا يضيق المقام بها ذرعاً؛ فأذكر منها فرعاً.
هَبْ أنّ هناك أباً له ثلاثة أبناء متفاوتو العمر، يَشبع كبيرهم بتناول خمسة أرغفة من الخبز، وأوسطهم بثلاثة أرغفة، وأصغرهم برغيف واحد، فالعدل يقتضي أن يوفّر لهم أبوهم ما يُشبعهم من الأرغفة باختلاف العدد فيما بينهم، والتساوي يستدعي توزيع الأرغفة بينهم بِعدد مماثل، وإن لم يَشْبع به الأكبر، وإن لم يكَد الأصغر يُسيغه.
وإليك مثالًا آخر: رجلٌ يدير شركةً ما، يشتغل فيها عددٌ من الموظفين تتباين كفاءاتهم ومؤهلاتهم، وتختلف أعمالهم، فالعدل أن يكون الراتب مختلفاً اختلافَ الكفاءات، وأن تكون التسهيلات متفاوتة تفاوتَ المؤهلات، والمساواة أن يكونوا كأسنان المُشط في الرواتب والتسهيلات وفي غيرها.
واقع الأمّة عرباً وعجماً، شرقاً وغرباً، حافلٌ بما سبق من الأمثلة والأحداث، كما نشاهد ذلك ونسمع ونقرأ في حياتنا اليومية.
فهناك مدارس عديدة يعمل فيها، وتحت إشرافها، أساتذة ذوو الكفاءات العالية، وأساتذة ذوي القدرات العادية، ومكاتب متنوعة يشتغل فيها موظفون أصحاب القدرات القيّمة، وموظفون من دونهم في التجربة والكفاءة، رغم ذاك؛ عبثاً يحاول المُشرفون – المحترمون – إقامةَ المساواة المذكورة فيما بينهم إرضاءً للكل، فهيهات هيهات لِما يحاولون؛ وذلك لأنّه لو حصل أقصى ما يريدون، فلا غرو أنَّهم يخسرون المَوهوبين، وذوي القدرات العالية من موظفيهم -وما أقلّهم في كل مجال– فيُضرّون غيرهم ويتضررون.
وأيضاً كما نرى رأيَ العين تعاملَ بعض الأساتذة مع طلابهم جميعاً في العِقاب والمؤاخذة يكون سواء بسواء، إذا ارتكبوا خطأً، مِن عدم كتابة الواجبات، أو التأخير عن المواعيد، أو الغياب عن الحصّة، على الرغم من الفرق البيِّن بينَ من يتأخر دون عذر، ومن يتأخر بعذر، ومن اعتاد الغياب، ومن اضطر إليه اضطراراً، وقِس على هذا.. ولو اختلف الطلاب في الأسباب وجعلناهم متساوين في النتائج، لكان هذا ظلماً على اسم المساواة؛ فلا تتعجبْ بعده على فقدان المواهب، وضياع القدرات، وخسران المهارات، ويكون هذا على حساب الأمة لا غير، كما دلّت التجارب، وأثبتت الحوادث عبر العصور، وعلى مرّ الدهور.
ولا يخفى أنّ المساواة في بعض صورها، وأشكالها تكون عينَ العدل كـ مساواة الرجل في القَسْم بين زوجاته عدلٌ، والتسوية في توزيع الهدايا على الأولاد عدلٌ، وتقسيم الرجل ممتلكاته في حياته من الأموال والعقارات بين الأولاد والبنات سواء بسواء عدلٌ فلا إشكال.
خلاصة الكلام وموجز القول، أن تتعامل مع الآخرين واضعاً الفرق بين مفهوم العدل والمساواة نُصب عينيك، واحرص دوماً كلَّ الحرص أن تكون عادلاً رابحاً، وألا تكون ظالماً خاسراً، ولا طاغياً فاقداً.
_________________
(*) أستاذ العلوم الشرعية واللغة العربية بمدرسة إمداد العلوم حيدر آباد- الهند.