13 فبراير 2025

|

إشراقات تربوية في صفقة الأسرى

منى عبدالفتاح

06 فبراير 2025

5227

تحمل صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال «الإسرائيلي» الكثير من علامات الانتصار، ليس فقط على المستويين السياسي والعسكري، بل على المستوى الأخلاقي الذي أبهر العدو قبل الصديق.

إنها بحق مدرسة أخلاقية من مدارس «كتائب القسام»، تكشف إلى حد كبير الرقي الأخلاقي الذي يتمتع به المقاوم الفلسطيني، والمقاتل القسامي، لينتصر على عدوه أخلاقياً وإنسانياً، رغم ما تعرض له من حرب إبادة وجرائم بشعة ضد الإنسانية.

يمكن لأي متابع محايد، وكل ذي ضمير، أن يسجل تلك الملامح والإشراقات التربوية التي كشفتها 4 جولات من تبادل الأسرى، على مدار الأسابيع القليلة الماضية، وسط حضور فلسطيني حاشد، ومتابعة مليارية على شاشات التلفزة، واهتمام إقليمي ودولي واسع.

إن هذه المدرسة الأخلاقية لا تقتصر فقط على حسن معاملة الأسرى «الإسرائيليين»، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، رجالاً أو نساء، من حيث المعاملة الإنسانية، والرعاية الطبية، والتغذية، وغيرها من أمور يصعب توفيرها في ظل ظروف صعبة وقاسية تحت القصف المتواصل.

إطلالتي في هذا المقال، تركز على ما أبداه المقاتل القسامي من خلق رفيع وأدب جم، لنرى كيف كان يغض بصره عن الأسيرات «الإسرائيليات»، ويحافظ على أعراضهن، ويتعفف عن كشف عوراتهن، أو مجرد لمسهن ولو من غير قصد، وهي لقطات واضحة وضوح الشمس في كبد السماء.

لم تخرج أسيرة «إسرائيلية» واحدة تشكو من التحرش بها، أو اغتصابها، أو حملها من أحد آسريها، كما لم تشك واحدة من سوء المعاملة، أو التعرض للإذلال والمهانة، أو الحرمان من الطعام والشراب والدواء.

إن من صور الرقي الأخلاقي للمقاومة، أنها خصصت عناصر نسائية تابعة لها للاعتناء بأسيرات العدو، ومساعدتهن في تدبير أمور النظافة الشخصية، والزينة أيضاً، دون مساس بخصوصيتهن، أو فرض شيء عليهن من الحجاب، على سبيل المثال، لتخرج الأسيرات «الإسرائيليات» في حالة صحية وبدنية ونفسية وجمالية رائعة، كأنهم كن في رحلة إلى منتجع سياحي، وليس في أسر داخل أنفاق غزة.

تنتقل الإطلالة إلى مظاهر النظام التي بدت جلياً خلال مشاهد تبادل الأسرى بواسطة الصليب الأحمر الدولي، وكيف كان يجري تنظيم الحشود الكبيرة المبتهجة بلحظة عزة ونصر، وتأمين الأسرى من إلحاق أي أذى بهم، وإكرامهم إلى آخر لحظة بمنحهم الهدايا التذكارية، لنشاهد -ربما للمرة الأولى- أسرى يبتسمون على المنصة ويلوحون بالتحية لآسريهم!

يتمدد نطاق الدهشة إلى المستوى المبهر الذي ظهر به عناصر المقاومة من ارتداء ألبسة عسكرية نظيفة، وأناقة لافتة للانتباه، كل حسب فرقته وتخصصه في جيش المقاومة، إضافة إلى الخروج بسيارات وعتاد مجهز على أعلى مستوى، وهم يخرجون بأسراهم من تحت الركام والأنفاق، وكأنهم كانوا في نزهة، وليس في قتال دام لأكثر من 15 شهراً.

يجري هذا كله وسط حشد كبير؛ ما يضع ضغوطاً وأخطاراً كبيرة قد تهدد العملية برمتها، لكن المقاومة تواصل تسطير ملحمتها الأخلاقية، من التعامل بمهنية مع أعضاء الصليب الأحمر، وصياغة نموذج للتسلم والتسليم، وترتيب منصة للحدث، ولافتات تحمل شعارات النصر، وأناشيد حماسية، وأعلام فلسطينية، وتوقيت محدد، ومواقع مختارة بعناية فائقة.

ربما يرها البعض تفاصيل صغيرة ودقيقة ليس لها ثمن في المشهد الغزاوي، لكنها دلالات عميقة تكشف جانباً من مدرسة الأخلاق داخل المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها، وتميط اللثام عن حقيقة الإنسان الفلسطيني، ونقاء فطرته، وسمو عقيدته، وعلو منهجه، وهو يلتزم بشرع الله، وسُنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

يقول الأسير «الإسرائيلي» كيث سيغال (65 عاماً)، في رسالته التي تداولتها وسائل التواصل والإعلام: إن مقاتلي «القسام» أحضروا له طبيباً عندما أحس بوعكة صحية، وإنهم حرصوا على إحضار طعام يتناسب مع وضعه الصحي، غذاء نباتي ومن دون زيت، كما حرصوا على تلبية كل احتياجاته من طعام وشراب وأدوية وفيتامينات، ليوجه في ختام رسالته الشكر لآسريه!

لم تترك المقاومة شيئاً للصدفة، فقد كشفت عن قدراتها الإنسانية والقيمية والتنظيمية والإعلامية؛ لتسطر ملحمة أخلاقية، أركانها الرقي والنظام والنظافة، بل ليس من المبالغة القول: إنها قدمت لوحة جمالية لعمليات تبادل الأسرى لم يشهدها العالم من قبل. 

لقد أحب الأسرى الذين أسروهم وسجنوهم، شكروهم وأشادوا بهم، واحتفظوا بهدايا تذكارية منهم، ربما تأثروا بهم وبأخلاقهم ونبلهم ورقيهم الإنساني ودينهم، كيف لا، وهم يمتثلون لقول الله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (الإنسان: 8)، ووصية نبيهم صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالأسارى خيراً».

إن الملامح التربوية والإنسانية في صفقة الأسرى خير دليل على كذب وزور ما يردده الإعلام الصهيوني والغربي حول تطرف الإسلاميين، وإرهاب المقاومين، وتشدد المجاهدين، بل كانت رسالة حية للتعريف بالإسلام، كتاباً وسُنة، وتجسيداً عملياً على أرض الواقع لأخلاق من أشاد المولى عز وجل به في كتابه الكريم، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4).

انتصرت المقاومة الفلسطينية أخلاقياً، لتعزز انتصارها العسكري والاستخباراتي والسياسي والإعلامي، وتكبد العدو هزيمة جديدة في ساحة الأخلاق والقيم والأعراف المجتمعية، لتصبح «طوفان الأقصى» علامة فارقة في تاريخ الإنسانية.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة