الملك العادل نور الدين محمود (ت 569 هـ)، لقبه نور الدين، واسمه محمود، وأبوه الأتابك (الملك) عماد الدين زنكي كان حاكما للموصل وحلب، ولد سنة 511 هـ بحلب، وكان أبوه زنكي هو أول من بدأ في محاولة طرد الصليبين المحتلين، لكن زنكي قتل سنة 541هــ، فانطفأ هذا الأمل وكاد أن يموت لولا أنْ منَّ الله على الأمة بمن يكمل هذا الطريق؛ فكان ابنه نور الدين الذي صار إليه المُلك بحلب بعد أبيه.
تولى نور الدين محمود حكم حلب والموصل وقت أن كان المسلمون في قمة التفرق والتشرذم؛ فقد كانت فلسطين والقدس الشريف قد مر على احتلالها أكثر من 150 عاما، ماتت خلالها أجيال وولدت أجيال، لكن الجيل الذي نشأ فيه نور الدين كان هو الأسوأ بين كل هذه الأجيال!!
فقد كانت الخلافة العباسية ممزقة، وكل جزء منها يحكمه طائفة أو فئة يجمع بينهم العداوة لبعضهم البعض، وكانوا من الضعف والتشرذم حتى إنهم كانوا يستعينون بالصليبين لحرب بعضهم بعضا.
وبالطبع لم تكن مساعدة الصليبين لبعض هؤلاء المسلمين مجانية؛ ففي المقابل كان هؤلاء الحكام الخونة إما يدفعون جزية لملك بيت المقدس، وإما يتنازلون له عن بعض الحصون والمواقع في مقابل أن يساعدهم في قتل إخوانهم المسلمين في مدينة أخرى.
أما عن بيت المقدس وأراضي المسلمين المغتصبة؛ فقد طال الزمان على احتلالها، وصار حكام ذلك الزمان يؤمنون بنظرية الأمر الواقع، وأنه من العبث والانتحار أن يحاربوا مملكة بيت المقدس القوية المدعومة من ممالك الغرب، والصواب في رأيهم أن يتم نوع من التعايش السلمي وتطبيق مبدأ “نعطي للمحتل الأرض مقابل السلام”! وصارت منزلة كل حاكم وقوته في ذلك الزمان بحجم الذلة التي يقدمها للصليبين.
ومن رحم هذا الزمان، خرج نور الدين محمود، الذي آمن أنه لا طريق للإصلاح إلا بتوحيد الأمة، ولا يمكن أن تتحد الأمة وعلى أنفاسها هؤلاء المجرمون المستمدون شرعية حكمهم من أعداء الأمة؛ فكان أول ما فعله نور الدين محمود هو محاربة هؤلاء؛ فقام بضم العديد من المدن والمقاطعات العربية إلى ملكه.
وقد يقول قائل: إذن سار نور الدين على درب من سبقوه في محاربة الممالك الإسلامية المجاورة؟
وقد يبدو في الظاهر أن هذا صحيح، لكن الواقع ينفي هذه المقارنة؛ فالحكام الذين سبقوه كان يحارب بعضهم بعضا في ظل مباركة وإشراف من العدو، أما نور الدين فكان له هدف سامٍ لهذه الحروب أعلنه بلسانه وصدَّقه فعله؛ فلم يتحالف مطلقا ًمع الصليبين طوال حياته، بل حاربهم وحارب من يعاونهم، ومهد الطريق للفتح الأكبر بعد موته بـ١٤عاما (583 هـ) على يد تلميذه صلاح الدين الأيوبي.
وفى كل المدن التي افتتحها نور الدين كان دائما يحسن إلى أهلها، ويبني لهم المدارس والمساجد والمستشفيات، ويوسع لهم الطرق والأسواق، بالإضافة إلى تخفيف أو إلغاء الضرائب، ثم بدأ بعد ذلك معاركه لطرد المحتلين
كان نور الدين حاكما فذا، حكيما يعرف أن الجهاد لا يؤتي ثماره إلا بإصلاح داخلي في الأمة أولا، فبدأ بإعداد الجبهة الداخلية؛ فبنى بدمشق مستشفى لم يُبن في الشام مثله من قبل، وبنى أسوارَ مدن الشام وقلاعها وحَصَّنها، وأحكم بناءها، وبنى أيضاً المدارس بحلب وحماة ودمشق. وبنى الجوامع في جميع البلاد، ومنها المسجد النوري في الموصل ومأذنته الحدباء، وهو المسجد الذي إليه النهاية في الحسن والإتقان (وللأسف تم تدميره منذ سنوات أثناء حرب الدواعش بالعراق، ولا أدري هل تم إعادة ترميمه أم لا).
في المقدمة دائما
وكان نور الدين في المقدمة دائما أمام جنده في المعارك، ولا تسل عن شجاعته وعقله في إدارة الحرب فقد كانت النهاية إليه فيهما، وكان حريصا على الشهادة حتى أنه كان يسأل الله تعالى أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير!
وقال له يوما الشيخ قطب الدين النيسابوري: “بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك؛ فإنك لو قُتلت أُخذت البلاد، وفسد حال المسلمين بعدك”. فقال له: “اسكت يا قطب الدين؛ فإن قولك إساءة أدب مع الله، ومن هو محمود؟ ومن كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود؟”، وظل يرددها حتى بكى من كان حاضراً.
كان نور الدين يؤمن أن العدل أساس الملك، وكان يؤمن بأن الشعب المقهور لا يستطيع أن يدفع عدواً غاصباً؛ فأسس حكمه على العدل؛ فهو أول من ابتنى داراً للعدل بدمشق، وكان يجلس فيها عدة مرات أسبوعيا؛ وذلك للنظر في أمور الرعية وكشف الظلم، وكان يأمر بإزالة الحُجَّاب والحُرَّاس حتى يصل إليه الضعيف والفقير والقوي والغني حتى عدَّه الكثيرون سادس الخلفاء الراشدين.
معركة التحرير
بدأت معركة تحرير القدس على يد نور الدين، فقام بإنهاء جميع معاقل الصليبيين في بلاد الشام واحدة تلو الأخرى، وكان يجمع غبار المعارك من ثيابه، ومن خوذته، ثم صنع منه قبل موته لبنة (طوبة) وأوصى أن توضع عند رأسه في القبر فتوسد -رضي الله عنه- تراب معاركه في قبره!
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “مَنْ سأَلَ اللَّه تَعَالَى الشَّهَادةَ بِصِدْقٍ بلَّغهُ اللهُ منَازِلَ الشُّهَداءِ وإنْ ماتَ على فِراشِهِ”، وهذا نور الدين محمود بالفعل قد مات على فراشه، لكن أبى الله إلا أن يقترن لقب “الشهيد” باسمه، حتى صار اسمه في كل المراجع التاريخية: “نور الدين الشهيد“!
بل أعجب من ذلك أني ذهبت إلى سوريا مع أولادي في 2004م، وكنا نريد زيارة قبره والترحم عليه، فعلمت أن قبره يقع بجوار سوق الحمادية بدمشق، وهو أشهر وأكبر سوق بالشام، فسألت العديد من المارة والباعة في السوق عن مكان قبر نور الدين محمود فلم يعرفه أحد، فاستغربت وحزنت لذلك، حتى سألت رجلاً كبيراً وقوراً عن قبر نور الدين محمود، فقال لي: “هل تقصد قبر نور الدين الشهيد؟” فقلت: سبحان الله، بعد كل هذه القرون، يأبى الله إلا أن يقترن اسمه بلقب الشهيد!