75 عاماً على النكبة الفلسطينية تمر ويمر معها تاريخ القضية الفلسطينية و«الأقصى» الأسير المختطف بمراحل متقلبة من الصعود والهبوط على مؤشر التأييد العربي، وتنعكس تبعاً لذلك صورة القضية في مناهج التعليم العربية بحسب الهوى السياسي للأنظمة العربية في كل عصر من العصور، فمرة تتفجر روح القومية العربية ودعم «الأقصى» بين طيات الكتب المدرسية، ومرات أخرى تتراجع، ومرات أخيرة تندثر، ويبقى التساؤل: أين «الأقصى» والقضية الفلسطينية على خريطة المناهج العربية؟ أين كانت؟ وإلى أي درجة وصلت؟
كانت فلسطين وقضيتها خلال الخمسينيات والستينيات في القلب من المناهج العربية في سائر أنحاء الوطن العربي، وكانت صورة «الأقصى» في الأذهان والوجدان يُنشّأ عليها الأطفال منذ نعومة أظافرهم، وكان للرواية جانب واحد يُقر بأن أرض عربية أصيلة وقبلة المسلمين الأولى استولت عليها عصابات صهيونية غير شرعية وسلبتها من أهلها الأصليين.
«كامب ديفيد» و«وادي عربة».. الخطوات الأولى نحو التراجع
كان انعقاد أول اتفاق سلام بين دولة عربية إسلامية والكيان الصهيوني المحتل في «كامب ديفيد» عام 1978م بين مصر و«إسرائيل» بمثابة المسمار الأول في نعش القضية، والخطوة الأولى في طريق طويل بدأت فيه المناهج التعليمية العربية في الانكفاء عن روح القومية العربية والهوية الإسلامية الرافضة مطلقاً للاعتراف بالطرف الآخر –الذي كان يسمى حتى ذلك الوقت الاحتلال الصهيوني– فضلاً عن عقد اتفاقات معه تدعم شرعية وجوده.
ولحق الأردن بمصر في اتفاق «وادي عربة» عام 1994م ليعترف بـ«إسرائيل»، ويقيم علاقات ودية معها، بخلاف اتفاق «أوسلو» مع منظمة التحرير الفلسطينية؛ مما رسخ شرعية الاحتلال شيئاً فشيئاً حتى أصبح دولة شرعية تمتلك الأرض التي كانت يوماً حقاً أصيلاً للفلسطينيين.
انطلاقاً من تلك الخطوات التطبيعية الأولى بين العرب و«إسرائيل»، بدأت المناهج العربي في مصر والأردن تتخلى تدريجياً وبإيقاع هادئ وبطيء عن التأييد المطلق للقضية الفلسطينية، فأصبح الرئيس محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام في المناهج المصرية، وأصبحت «إسرائيل» عدواً دون إشارة صريحة إلى اسمها أو التصريح بأنها كيان محتل في المناهج التي تتناول حرب أكتوبر 1973م.
وفي الأردن تم إلغاء كتاب «القضية الفلسطينية» الذي كان مقرراً عام 1983م؛ أي قبل «وادي عربة» بسنوات، إذ كانت المفاوضات بين الأردن و«إسرائيل» تتم في الخفاء، وخلال التسعينيات حُذف الحديث الشريف: «نظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود» من مناهج المرحلة الأساسية للتربية الإسلامية، وتلاه حذف عبارة «احتل العدو الصهيوني فلسطين» من منهاج الصف الرابع الابتدائي خلال سنوات.
التطبيع للجميع
منذ مطلع الألفية الثالثة بدا واضحاً سعي عدد من الدول العربية للحاق بركب التطبيع، وقبول التعامل مع الكيان المحتل، والاعتراف به، بل والتعاون معه وإقامة علاقات صداقة؛ وهو ما استدعى أن تعيد تلك الدول صياغة مناهجها التعليمية بما يتوافق والتوجهات الجديدة.
وقد وضحت معالم التطبيع في المناهج العربية بأبهى صورها في مناهج دول عربية عديدة:
– الأردن:
منذ عام 2014م دخل التطبيع في مناهج الأردن مرحلة أكثر حاسمية، فتم إصدار قرار وزاري رسمي لمدارس الأردن يمنع اقتناء كتاب «اليهود لا عهود ولا ذمة» في المكتبات المدرسية، ثم حذفت دروس تشير إلى القدس والقضية الفلسطينية، وتم إلغاء قصص تروي فداء الجيش الأردني وبطولاته ضد «إسرائيل»، مثل حذف درس يشيد ببطولات الطيار الأردني فراس العجلوني الذي كان أول طيار عربي يقصف «إسرائيل»، وقد وصل الأمر حد حذف اسم فلسطين من الخريطة لمصلحة «إسرائيل».
– السعودية:
نتيجة سياسات جديدة كلياً تشهدها المملكة السعودية على سائر الأصعدة انعكست سياسات التطبيع بشكل ضخم ومتنامٍ في المناهج السعودية، تراوحت تلك التغييرات التعليمية في حذف كل ما له علاقة بالعداء مع اليهود والأحاديث النبوية التي تحض على ذلك، وإلغاء كافة الغزوات والصراعات ضد اليهود في التاريخ الإسلامي، وعلى مستوى اللغة العربية تم حذف دروس «معارضة الاستيطان اليهودي في فلسطين»، وموضوع «احتلال اليهود للأرض المقدسة» من دورس الشعر، وفي كتاب الجغرافيا للمرحلة الثانوية تم حذف اسم فلسطين من الخريطة وترك مكانها خالياً دون اسم فلسطين ولا «إسرائيل».
كما ألغي تدريس الانتفاضة الأولى، بالإضافة إلى حذف واجب دراسي كان يتم تقريره على طلاب الثانوية يطلب منهم «ذكر أحد المزاعم الصهيونية المتعلقة بحقهم في أرض فلسطين»، وقد وصل حجم التعديلات التي طرأت على المناهج السعودية، بحسب تصريحات رسمية، إلى أكثر من مائة ألف تعديل طالت ما يقرب من 90 كتاباً مدرسياً لسائر المراحل التعليمية، بالإضافة إلى استحداث أكثر من 30 كتاباً ومنهجاً جديداً برؤى تم تطويرها لتلائم سياسات التطبيع الجديدة مع «إسرائيل».
– مصر:
منذ 10 سنوات تكثف مصر ما يدعى «تطوير المناهج المدرسية» وفي إطار ذلك، كان محور دعم التطبيع أحد المحاور المهمة التي قام عليها التطوير، وتبعاً لذلك تم حذف كل المواد والنصوص المعادية لليهود أو المتعلقة بمعاداة السامية، واستبدال سائر الأحكام السلبية ضد اليهود التي تصفهم بالخيانة والجشع وانتهاك العهود بقيم التعايش السلمي وقبول الآخر، كما شهدت المناهج المصرية إضافة موضوع يتعلق باستعراض المكاسب السياسية والاقتصادية لاتفاقية السلام بين مصر و«إسرائيل».
– البحرين:
أما في البحرين وعلى خلفية لقاءات متعددة لوزيرة التربية والتعليم «الإسرائيلية» وسفير «إسرائيل» في المنامة عام 2022م، تمخض عن تلك اللقاءات تعديلات في دروس دينية وحذف أحاديث وموضوعات من السيرة النبوية تعادي اليهود، بالإضافة إلى تغيير في خريطة فلسطين والقدس أضافت «إسرائيل» إلى الخريطة في كتاب الاجتماعيات للصف الأول الإعدادي، بالإضافة إلى إدراج دروس تتحدث عن اتفاقية التطبيع بين البحرين و«إسرائيل» بشكل إيجابي.
سمات التطبيع التعليمي في المناهج العربية
دخل التطبيع التعليمي في المرحلة الراهنة طوراً جديداً يختلف جذرياً عما ساد في المرحلة الأولى لدى مصر والأردن بعد اتفاقات السلام في الثمانينيات والتسعينيات، واتسم بعدة سمات، أهمها:
– شامل وكلي: كان التغيير التعليمي سابقاً يشمل حذف بعض الآيات أو الأحاديث عن اليهود، أو التزام الصمت الحيادي بشأن كثير من المسائل، ثم تطور الأمر أخيراً إلى إلغاء مناهج كاملة وإعادة مراجعة شاملة لكل المناهج التاريخية والدينية والاجتماعية ليتم إعادة صياغتها بالجملة.
– يتبنى الرواية «الإسرائيلية بالكامل»: إذ يلغي القضية برمتها بالصمت عنها كلياً أو بالانحياز الكامل للرواية «الإسرائيلية» للقضية باعتبارهم أصحاب أرض وذوي حقوق تاريخية، فيتم حذف فلسطين من الخرائط لمصلحة «إسرائيل»، بل ويحذف تاريخ اليهود بالكامل من التاريخ الإسلامي.
– يتزايد باطراد: حيث تتم المراجعات والتعديلات باستمرار وبشكل دوري، فيتم تطوير المناهج بشكل دائم وسنوي بالحذف والإضافة في منهجية واضحة تتخلى عن القضية الفلسطينية.
– يُحيّد المفاهيم: يتبنى التطبيع التعليمي حياداً غير موضوعي في قضية وطنية، فينتهج بنية مفاهيمية واصطلاحية مائعة وملتوية لتجنب اتخاذ موقف صريح من القضية، وذلك مثل استخدام مفهوم الحرب الفلسطينية لعام 1948م بدلاً من «النكبة»، واستخدام تعبير «الانتداب البريطاني على فلسطين» بديلاً عن «محاولة إنشاء الكيان الصهيوني»، و«أورشليم» بدلاً من «القدس».
يؤدي ذلك كله في النهاية وبشكل تدريجي إلى النكوص عن دعم فلسطين بين الأجيال الناشئة وتآكل ملامح القضية الفلسطينية، وانزواء الرواية التاريخية الفلسطينية لقصة الاحتلال.