تتمدد في نفوسنا راحة ذات طعم خاص لشهادة التاريخ: من أراد الجمال، والفقه، والسخاء فليأتِ دار العباس بن عبدالمطلب؛ فالجمال للفضل، والفقه لعبد الله، والسخاء لعبيد الله، رضي الله عنهم جميعًا.
فأمَّا عبدالله فلا يجهله إلَّا جاهل، ولا يغفله إلَّا غافل، وأمَّا الفضل، وعبيد الله، وقُـثَم فينبغي أن نقتبس من أنوارهم شيئًا، ونتنسَّم من طيوب العزة والشرف التي تفوح من بين جدران دارهم، وحروف نسبهم فكفاهم شرفًا لا يساجله شرف أنهم أبناء عمّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في أبيهم: «من آذى عمِّي فقد آذاني، فإنَّما عَمُّ الرجلِ صِنْوُ(1) أبيه»(2).
وكان العباس رضي الله عنه مقدم آل البيت والأشراف، رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلًا ذات يوم، فقال: «هذا العباس أجود قريش كفًا وأوصلها»(3).
وكان في الجاهلية رئيسًا في قريش، وكانت إليه عمارة المسجد والسقاية.
وأمهم لبابة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها، كانت تُكنَّى بأم الفضل، وهي لبابة الكبرى أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وخالة خالد بن الوليد رضي الله عنه.
قيل: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، ولدت للعباس ستة رجال لم تلد امرأة مثلهم، وفيها قال الشاعر:
ما ولـدت نجيبة من فحل بجبل نعلمه أو سهل
كستة من بطن أم الفضل أكرم بهما من كهلة وكهل
عم النبي المصطفى ذي الفضل وخاتم الرسل وخير الرسل
ولئن وقفنا من قبل مع خبر عبيد الله بن العباس، فلنقف الآن مع خبر الفضل بن العباس، فإن له معنا حديثاً.
كان الفضل أكبر أبناء العباس وبه كان يُكنَّى، أسلم قبل أبيه منحازًا عن طريق الشرك معانقًا التوحيد، ومنذ وعى قلبه الإسلام ما عرفته أيامه إلَّا باذلًا من أجله، مجاهدًا لنصرة قضيته، ضنَّ علينا التاريخ بتاريخ إسلامه، بيد أنه أسلم قبل فتح مكة حيث أثبت لنا التاريخ أنه شهد الفتح وحنينًا، وكان له يوم حنين موقف مشهود، فعندما باغتت ثقيف وهوازن المسلمين في أول المعركة، تقهقرت صفوف المسلمين الأمامية ولووا أعنة الخيل مدبرين يصيحون ويتخبطون، وتبعتهم بقية الصفوف لما أَلمَّ بهم من الدهشة والمفاجأة، حينذاك ثبت حول النبي صلى الله عليه وسلم القليل من المهاجرين والأنصار يفدونه بالمهج والأرواح، وكان العباس والفضل رضي الله عنهما في طليعة هذه القلة الباسلة.
وشهد الفضل حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم وله فيها حدث وحديث؛ فأمَّا الحديث فيقول رضي الله عنه: كنت رَدفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة المزدلفة، فما زلت أسمعه يُلبِّي حتى رمى جمرة العقبة، فلمَّـا رماها قطع التلبية(4).
وعنه رضي الله عنه، وكان رَدِيفَ(5) رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أنه قال في عَشِيَّةِ عرفة وغَداةِ جَمْعٍ لِلنَّاس حين دَفَعُوا(6) عليكم بالسَّكينةِ وهو كافٌّ ناقَتَهُ(7)، حتى دخل مُحَسِّرًا(8)، وهو من مِنًى، قال: «عليكم بحَصَى الخَذْفِ(9) الذي يُرْمَى به الجَمْرَةُ»(10).
وقال: لم يَزَلْ رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُلَبِّي حتَّى رَمَى الجَمْرَة.
وأمَّـا الحدث فجاء فيه: جاءت امرأه تستفتي الرسول صلى الله عليه وسلم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، ويقول: «رأيت شابًا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان»(11)، ولم تهتز ثقة النبي صلى الله عليه وسلم في الفضل، ولكنه فحسب كان يوصد بابًا دائماً ما يلجه الشيطان برفق، فقد كان الفضل من أجمل الناس، وتبادل والمرأة نظرات بنظرات، ربما غطَّى ضباب وساوس الشيطان عينيهما حتى صارا لا يدركان في أي اتجاه ينظران، ولمَـا وقعت عينا النبي صلى الله عليه وسلم على نظراتهما لكأنه قد تملَّكه انقباض مفاجئ من حبالات الهوى الزائف الذي يثيره الشيطان في النفوس، فجعل يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، ليس فقط ليقطع حبائل الشيطان في نفسيهما، وإنما ليدع هذا الفعل قصير المدى في مساحته ومبناه كتعليم نبويّ شريف طويل المدى جداً في معناه ومبتغاه، يأخذ بأيدي شباب الإسلام وفتياته إلى الطهر والعفَّة ما بقيت على الأرض حياة، فليطالعوا هديه صلى الله عليه وسلم هنا، وليصرف الجميع وجوههم إلى الشقِ الآخر، ثم عليهم التعجيل بالزواج فور استطاعة الباءة، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلَّا أن «زوَّج الفضل من صَفِيَّةٍ بنت مُحْمِيَةٍ بن جَزْءٍ الزَّبِيديّ وأمهر عنه»(12).
وصعد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وظفر الفضلُ بفضلِ شهودِ غُسْلِهِ الشريف.
وكان القائمون على غسله العباس بن عبدالمطلب، وعلي بن أبي طالب، والفضل، وقُثَم، ابني العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي رضي الله عنهم جميعاً، فكان العباس، والفضل، وقُثَم يقلبونه، وأسامة، وشقران، يصبَّان الماء، وعليّ يُغَسِّلَهُ، وأوس يسنده لصدره صلى الله عليه وسلم(13).
وقد غُسِّلَ صلى الله عليه وسلم ثلاث غَسْلات بماء وسدر، وغُسِّلَ من بئر لسعد بن خَيْثَمة يُقال لها الغَرْس، وكان صلى الله عليه وسلم يشرب منه(14).
ثم كُفِّنَ صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية بيض سحولية من كُرْسُف ليس فيها قميص ولا عمامة(15).
ولئن كنا نحن نشم رائحة الحزن في ذاكرة التاريخ، ونتذوق مرارته في خبر صعوده صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فكيف كان حال القائمين على غسْلِه صلى الله عليه وسلم؟ لا ريب أن الحدث صدع أفئدتهم، وبفؤاد مصدوع يمضي الفضل عاقدًا عزمه على الظفر بمقعد له هناك بجوار ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم، فانضوى تحت رايته التي راحت تُـكْمِل مسيرتها.
وفي يوم «اليرموك»، ويوم «مرج الصفر»، ويوم «أجنادين» أشهد ساحات الحروب من نفسه، واختلف في وقت موته، فقيل: إنه نال الشهادة على ساحة «اليرموك» سنة 15هـ، ورقي إلى ما صبت إليه نفسه(16).
وقيل: نالها يوم «أجنادين»، وقيل: بل نالها يوم «مرج الصفر» وكلاهما سنة 13هـ.
وقال الواقدي: مات في طاعون عمواس سنة 18هـ بالشام.
ويصح أن نقول: حتى ولو مات الفضل في طاعون عمواس بالشام، فقد مات غازيًا؛ وعليه ففي كل الأحوال قد غنم الشهادة لينعم في فضلها وأجرها هناك في جوار ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم كما تنعم في جواره وحبه هنا.
أجل كان صلى الله عليه وسلم يبادله حبًا بحب؛ أما أردفه خلفه في حجة الوداع، أما زوَّجه وأمهر عنه، أما قال له في مرضه: «خذ بيدي»، فعنه رضي الله عنه أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خذ بيدي»، وقد عصب رأسه، فأخذت بيده، فأقبل حتى جلس على المنبر، فقال: «نادِ في الناس»، فصحت فيهم فاجتمعوا له.
ورحل الفضل رضي الله عنه راضيًا مرضيًا، ولم يترك ولدًا إلَّا أم كلثوم، وتزوجها الحسن بن عليّ ثم فارقها، فتزوجها أبو موسى الأشعري.
وهنيئًا له حب ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم هنا، وسرورًا له جواره هناك(17).
__________________________
(1) الصِّنْوُ: المثيل والنظير، أي أن: عمّ الرَّجلِ مِثلُ أبيه في المَكانةِ والمنزلةِ.
(2) حديث حسن صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (3758).
(3) إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الصحيح، أخرجه النسائي في سننه (8174)، والطبراني في الأوسط (1947).
(4) حديث صحيح: أخرجه النسائي (3080)، وابن ماجه (3040)، وصححه الألباني.
(5) كان يركب خلفه.
(6) اندفعوا في السير المزدلفة.
(7) يمنعها صلى الله عليه وسلم من الإسراع في المشي.
(8) واديَ مُحَسِّرٍ، وهو وادٍ صغير بينَ منى والمزدَلِفة.
(9) حَصَى الخَذْف: صغار الحَصى بحجم حَبَّة الباقِلَّاء.
(10) حديث صحيح أخرجه مسلم (1282)، وأحمد (1794).
(11) حديث صحيح أخرجه البخاري (1853)، ومسلم (1335).
(12) انظر صحيح مسلم (1072).
(13) أخرجه ابن ماجه (1/ 521).
(14) طبقات ابن سعد (2/ 277-281).
(15) حديث صحيح: أخرجه البخاري (1264)، (1271).
(16) حرارة الشوق، وقيل: هي رقته.
(17) انظر: الثقات (3/ 330)، الطبقات (4/ 297)، عيون الأخبار لابن قتيبة (1/ 457)، الإصابة (7018)، الاستيعاب (2117)، أسد الغابة (4237)، (2799)، (7252).