كنا قد عرضنا في المقال السابق التوجه الأول نحو أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر فيما يتعلق بمسألة صيغ الوحدة السياسية بعد مرحلة سقوط الخلافة الإسلامية، وذكرنا أول صيغة لهذا المنحى وهي التكتلات الإقليمية بين قُطرين أو أكثر، فيما نستعرض في هذا المقال التوجه الثاني المتمثل في الوحدة السياسية والإدارية.
التوجه الثاني: الوحدة السياسية:
يسلّم أصحاب هذا التوجه بأن العالم الإسلامي بحاجة ماسة إلى الوحدة السياسية، لكي يستعيد مكانته الدولية بين أمم المعمورة، غير أن ذلك يقتضي المرور بمرحلة تمهيدية، يتمّ التركيز فيها على تفعيل التعاون بين الأقطار الإسلامية في جميع المجالات، وتذليل الصعوبات التي تحول دون تجسيد وحدة العالم الإسلامي السياسية والإدارية، وتأجيل تقديم التصورات حول صيغة هذه الوحدة، لأن التغلب على الموانع والصعوبات والعوائق من شأنه أن يفضي بالضرورة والتبعية إلى صيغة معينة من صيغ الوحدة، تكفل الأهداف والتطلعات العامة للأمة الإسلامية على الصعيد الدولي.
أبو زهرة: الخلافة يمكن تحقيقها باتحاد الأقطار الإسلامية في توجهاتها المسنودة بروح الأخوة وتعاليم الإسلام
فالشيخ محمد أبو زهرة يذهب إلى أن الخلافة الكبرى يمكن أن تتحقق دون أن يكون للمسلمين دولة واحدة، وذلك بأن تتحد كلّ الأقاليم والأقطار الإسلامية في توجهاتها العامة المسنودة بروح الأخوة الإسلامية وتعاليم الإسلام، بيد أن ذلك يقتضي جملة من الشروط التي لا مندوحة عنها، أهمها ما يلي:
1- ألا يكون بين أي إقليم وآخر من الأقاليم أو الأقطار الإسلامية خلاف سياسي، يجعل أحدهما يناوئ الآخر في مجال السياسة الخارجية، مع احتفاظ كل إقليم أو قُطر بسياسته الداخلية ونظمه الدستورية، النابعة أصلاً من القرآن والسُّنة ومقاصد الشريعة.
2- ألا يدخل أي إقليم من الأقاليم الإسلامية في أيّ اتفاق سياسي منفرداً؛ لأن ذلك من شأنه أن يكون مدخلاً لاختلاف المسلمين في سياساتهم الخارجية، فسداً للذريعة لا يجوز الاتفاق الانفرادي لأي قُطر أو إقليم إسلامي، حتى يكون المسلمون في المحافل الدولية كتلة واحدة مرهوبة الجانب(1).
أشواق الوحدة
ومن بين من نعدّهم من أهل هذا التوجه الشيخ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، فهو يسلّم بضرورة الوحدة الإسلامية في أبعادها المختلفة، كما يعدّ الوحدة السياسية والإدارية شاملة لغيرها من معاني الوحدة، لكنه يحذر من محاولات التسرع في إقامة هذه الوحدة على أساس عاطفي أو حماسي متعجّل، ويرى أن من أهم واجبات الأمة الإسلامية أن تُحيي في ناشئتها أشواق الوحدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية؛ لأن صورة من صور هذه الوحدة سوف تقوم بأرض الإسلام في يوم من الأيام.
مع العلم أن الشيخ الميداني يؤمن بضرورة سلك الأسلوب الارتقائي المتدرّج للوصول إلى تلك الصيغة أو الصورة المنشودة من وحدة الأمة الإسلامية، ويضع عدة مقترحات يرى جدواها في المرحلة الراهنة، وأنها إذا أُحسن استثمارها في واقع الأمة، فإنها تمهد السبيل للوصول إلى تجسيد الوحدة الإسلامية الحقة بكلّ أبعادها ومعانيها، وهذه المقترحات تتمثل في الآتي:
1- إعداد نظام من الأحكام الشرعية للعلاقات الاجتماعية المدنية، ليكون بديلاً جاهزاً للقوانين المدنية المستوردة، الموجودة في معظم أقطار العالم الإسلامي، وأن يتشكل مكتب من الخبراء لمتابعة إنجاز هذا النظام، وبعد توفره يُعقد مؤتمر موسع للفقهاء والقانونيين الإسلاميين من كلّ أقطار العالم الإسلامي لاستعراض فصول ومواد وبنود هذا النظام والتصويت عليها فصلاً فصلاً، ومادة مادة، وبنداً بنداً.
الميداني: من أهم واجبات الأمة الإسلامية أن تُحيي في ناشئتها وشبابها أشواق الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية
2- توحيد نظام التعليم العام ومناهجه وكتبه ومقرراته في العالم الإسلامي، حتى نهاية المرحلة الثانوية، والتقريب ما أمكن بين مناهج التعليم الجامعي.
3- العمل على توحيد النُّظم الإدارية المختلفة، على أن تكون مستمدة من الشريعة الإسلامية ومنسجمة مع أحكامها ومقاصدها العامة.
4- تأسيس منظمة إسلامية تقوم بترجمة معارف الشعوب الإسلامية، وترجمة كلّ ما يجدّ من معارف أساسية لدى جميع شعوب الأرض، وطباعتها باللسان العربي أولاً، ثم بألسنة الشعوب الإسلامية ثانياً، كي تكون مراجع للباحثين من أبناء الأمة الإسلامية.
5- العمل على نشر اللغة العربية في جميع بلدان العالم الإسلامي، وجعلها لغة الدين والعلوم والمعارف الإسلامية، واللغة الثانية في التواصل والتخاطب بعد لغة أي بلد إسلامي غير عربي، وعلى البلدان العربية أن تبذل جهدها في تأليف الكتب الفنية التي تساعد في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
6- تشجيع المصارف الإسلامية الملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية، في كلّ أقطار العالم الإسلامي، وتطوير أدائها، كي تكون بديلاً للبنوك والمصارف الربوية، التي تهيمن على الحركة الاقتصادية في الوقت الراهن.
7- تفعيل وتكثيف اللقاءات بين صفوة العالم الإسلامي من علماء ومفكرين وتربويين وخبراء في كلّ المجالات والتخصصات، ونقل الخبرات والتجارب، ودراسة العراقيل التي تحول دون تحقّق الصورة المثلى للوحدة بين المسلمين(2).
من جهته، يذهب الشيخ محمد المجذوب إلى أن المسلمين كانوا عبر كلّ مراحل تاريخهم يدركون أهمية الوحدة في وجودهم، فكانوا كلما نجح المفسدون في إيهانها بالدس وبثّ السموم، عمدوا إلى رتق الفتوق باستصلاح ما وَهَى من ذلك البنيان.
المجذوب: ضرورة العمل على إزالة التناقضات الاجتماعية والسياسية في توجهات الأنظمة العربية والإسلامية
وفي عصرنا هذا أصبح الأمر أكثر تعقيداً، نتيجة أثر الماضي في حاضر الأمة، ونجاح الاستعمار الحديث في النأي بأعداد هائلة من أبناء أمتنا الكبيرة عن المنهج الصحيح الذي كان عليه سلف هذه الأمة، وبناء على ذلك يقترح الشيخ المجذوب، للوصول إلى استعادة طريقة من طرق التماسك، قبل إنجاز الوحدة السياسية الكاملة، المرور بالخطوات الآتية:
1- العمل على إزالة التناقضات الاجتماعية والسياسية في توجهات الأنظمة العربية والإسلامية، حيث يُلاحظ أن البعض يميل إلى التوجه الليبيرالي، والبعض الآخر يعلن التزامه بالنهج الاشتراكي، في حين يمزج البعض الآخر بين جملة من التوجهات والآليات، لا سيما في المجال الاقتصادي، ولا يخفى مخالفة الكثير من المعاملات المستمدة من هذه التوجهات للشريعة الإسلامية ومقاصدها العامة.
2- إقامة سوق إسلامية مشتركة، تشمل كلّ منتوجات ومصنوعات العالم الإسلامي، مع رفع الحواجز الجمركية، فهذه السوق تتيح للمسلمين أن يعرف بعضهم بعضاً في مجال موهبة التجارة والإبداع الحِرفي والصناعي، وبذلك ينتفع كلّ إقليم بما لدى الآخرين من إمكانات تغنيهم عن الاعتماد على الأجانب في الشرق والغرب، فيوفرون أموالهم، ويجعلون قسطاً منها -عن طريق التبادل- يدور في فلك الاقتصاد الإسلامي، بدل أن يدور في دواليب الاقتصاديات الأجنبية، ولا يمكن لأي أحد أن ينكر مدى أثر التكامل الاقتصادي في السير باتجاه تحقيق الوحدة المنشودة بين المسلمين.
3- تأسيس محكمة عدل إسلامية، يشرف عليها كبار علماء الشريعة، بالإضافة إلى ذوي الخبرة من كلّ التخصصات الشاملة لمختلف جوانب الحياة، إذ من شأن هذا العمل أن يكشف عن فعالية الأحكام الشرعية في فض المنازعات بين المسلمين؛ أفراداً وهيئات وأنظمة، وأثر نظام الشورى في التآلف، وتعضيد عناصر القوة في الأمة المسلمة(3).
وختم الشيخ المجذوب مقترحاته، التي تمثل خطة تدريجية بالسير غير المتعجل نحو وحدة الأمة الشاملة، التي تعني استئناف الإسلام لدوره على الصعيد الإنساني بقوله: «ولعمر الحق أن في هذه الوحدة فرصة الدهر أمام الدول الإسلامية التي تؤمن بضروب التقارب، لإنقاذها من التيه الذي صارت إليه، والضامن الأوحد لاسترداد مكانتها المفقودة في الحضور العالمي، ولن يكلفها ذلك سوى الاقتناع بمبادئ النظام الذي تقوم عليه هذه الوحدة؛ وهو الذي تنتظره الدنيا بعد أن أفلست سائر أنظمتها الوضعية، ثم تأتي الخطوة التالية بإعادة ترتيب أوضاعها الإقليمية على أساس هذه المبادئ»(4).
العقيل: الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلامية وتوحيد اللغة واستغلال موسم الحج ونصرة قضايا المسلمين
حالة غير طبيعية
وممن يعولون أيضاً على ضرورة نهج مسلك التمهيد وقطع المراحل الطبيعية اللازمة، للوصول إلى إحدى الصيغ المناسبة لوحدة المسلمين السياسية، المستشار عبدالله العقيل، إذ إنه يقرّ بأن أعداء أمتنا قد انتبهوا منذ أمد بعيد إلى قيمة الوحدة وإلى علاقتها المطردة بقوة الأمة وسيادتها، فكادوا لها وعملوا على التسلل إلى صفوف المسلمين لإيجاد الفرقة وإحداث التناقضات بينهم، وإقامة الحواجز بين أقطارهم، وشغلهم بحدود وطنية مصطنعة، وتشجيع الدعوات القومية والحركات الباطنية المعادية للإسلام.
لذلك، فإن ما يراه المسلم حالياً من حالة الضعف والتخلف والتفكك والتبعية السياسية والاقتصادية يجب أن يُفهم بأنه حالة غير طبيعية مخالفة لتعاليم الإسلام ومقاصد شريعته، وأن مقتضى تغيير هذا الواقع، إنما هو العمل الجاد من أجل عودة الوحدة بين المسلمين، في كلّ أبعادها ومجالاتها، فالإسلام لا يرضيه إلا أن يصبح المسلمون كتلة سياسية وإدارية وحضارية واحدة، لأنهم أمة واحدة.
غير أن المستشار العقيل يؤمن بالتدرج المؤسس على جملة من التمهيدات، خاصة إذا تعلق الأمر بالوحدة السياسية، ومن أهم الخطوات التي تساعد في بلوغ هذا الهدف الكبير، تتمثل بنظره، فيما يلي(5):
1- الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلامية، من خلال:
– توحيد المناهج الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة، وشمولها لكلّ ما يتعلق بالأمة الإسلامية.
– تيسير سبل السياحة والرحلات والتنقل بين البلاد الإسلامية، وتسهيل إجراءاتها، وإنشاء شبكة مواصلات متنوعة تربط بين أقطار العالم الإسلامي، لتمكّن المسلمين من الاطلاع على معالمها، والتزوّد من معارفها وثقافاتها.
– التوحّد اللغوي، بأن تكون اللغة العربية لغة التعامل الرسمية بين البلاد الإسلامية، بغرض تسهيل عملية التواصل بين المسلمين على اختلاف أقطارهم، ولا يعني ذلك إلغاء اللغات القومية للبلاد الإسلامية، وإنما المقصود أن يُقبل المسلمون على تعلّم اللغة العربية -لغة القرآن الكريم- ليتمكنوا من عملية الاتصال والتواصل فيما بينهم.
2- حسن استغلال موسم الحج، ليكون سبيلاً للتعارف، ومناقشة أحوال المسلمين الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتبادل الرأي، والشورى في شؤون المسلمين، وإقامة ندوات في موسم الحج تجمع أبناء كلّ تخصص لمناقشة حاجة الأمة في تخصصهم، فالفقهاء يجتمعون في ندوات تدارس الفقه، والاقتصاديون يجتمعون في ندوات تدارس الاقتصاد الإسلامي والسبيل إلى نموّه، وكذلك المهندسون والأطباء والإعلاميون، وبذلك يشهد المسلمون منافع لهم، فيسعون لتنفيذها في واقعهم.
3- نصرة قضايا المسلمين، واتخاذ مواقف عملية ضد أي جهة تعتدي على أي قطر إسلامي كالمقاطعة بجميع أشكالها، واعتبار الاعتداء على أي إقليم إسلامي اعتداء على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ينبغي مقاومته والردّ عليه.
4- تفعيل دور المنظمات والمؤسسات القائمة، كمنظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي حالياً) والجامعة العربية وغيرهما، ومنحها من الصلاحيات والسلطات والموارد المالية، ما يجعلها قادرة على اتخاذ خطوات جادة على طريق مشروع الوحدة الإسلامية، مثل فض النزاعات والخلافات الناشبة بين الأقطار الإسلامية.
5- الاعتناء بالتكامل الاقتصادي بين الأقطار الإسلامية، والعمل على بلوغ مستوى الاكتفاء الذاتي، ويكون ذلك عبر:
– إنشاء شركات ومصانع إسلامية برأسمال إسلامي، يتسع نطاق عملها الجغرافي ليشمل كلّ الدول والأقطار الإسلامية.
– حثّ جمهور المسلمين في بقاع الأرض المختلفة على تشجيع منتجات الشركات والمصانع الإسلامية بالإقبال عليها بدلاً من منتجات الشركات والمصانع الأجنبية.
– حظر استيراد أي منتج من الخارج إذا وجد في أحد الأقاليم الإسلامية ما يغني عنه، حتى وإن كان أقلّ منه في الجودة والكفاءة، كما لا يُصدّر أي منتج إلى الخارج إذا كان أحد الأقطار الإسلامية بحاجة إليه.
– توحيد العملة النقدية المتداولة بين الأقاليم والأقطار الإسلامية، مما يسهل عملية التبادل التجاري والمصرفي بينها، مع إزالة الحواجز الجمركية، لأن حركة الاستثمار والتبادل التجاري تقتضي ذلك.
– فتح باب الهجرة بين كلّ الأقطار الإسلامية؛ لتسهيل الانتفاع بالموارد البشرية، فبعض البلاد والمناطق الإسلامية تزخر بالموارد البشرية، وبعضها تزخر بالموارد الطبيعية التي لا تجد من يستثمرها وينتفع بها، وفتح باب الهجرة يسهّل الانتفاع بهذه الموارد، ويساعد على قيام وحدة اقتصادية بين المسلمين.
6- السعي إلى إقامة الخلافة الإسلامية التي تضمّ شتات المسلمين تحت راية واحدة، هي راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وإيجاد الخليفة المسلم الذي يحسم أمور الخلاف التي تظهر بين المسلمين، فهذه الخلافة كفيلة باستعادة القوة والعافية للأمة الإسلامية، واستئناف دورها الدعوي ورسالتها الحضارية بين الأمم.
عروة: مسألة الدولة الإسلامية في هذه المرحلة التاريخية التي تمرّ بها أمتنا مغامرة مبتسرة ومحفوفة بالأخطار
مغامرة مبتسرة
أما د. أحمد عروة، فيعتقد بأن «مسألة الدولة الإسلامية في هذه المرحلة التاريخية التي تمرّ بها أمتنا، مهما كانت الصيغة التي يمكن الاتفاق حولها، تعدّ مغامرة مبتسرة ومحفوفة بالأخطار، لن تؤدي، حتى لو نجحت محلياً ومؤقتاً، إلا إلى تفاقم الانقسامات، لا سيما أننا قد رأينا إلى أي حد بلغت حساسية بعض الناس بالنسبة لمشكلات الوحدة السياسية للعالم الإسلامي»(6).
وإذا كان العامل الخارجي حاضراً في هذا التحليل، باعتبار أن الكثير من القوى الراصدة لحركة الإسلام المتخوّفة من قوته ما تزال «ماضية في القبض على زمام الأمور وفي استغلال هذه الطاقة الهائلة المطوية في الشعور بالوحدة لدى الشعوب الإسلامية، وتوجيهها لمصلحتها بعد تشويهها، رغم أن الإسلام لا يستطيع أن يفرض نفسه قوة ثالثة إلا بحفاظه على شخصيته؛ أيديولوجياً وسياسياً، وهو أمر لا يُستطاع أن يُتصور ما بقيت البلاد الإسلامية معتمدة؛ تقنياً واقتصادياً وثقافياً، على مشيئة الدول الكبرى؛ أي أن الطريق المؤدي إلى الوحدة السياسية والأيديولوجية يُعدّ عملاً شاقاً دؤوباً، يتطلب إيماناً عميقاً وجهداً موصولاً وإرادة لا تتزعزع»(7).
من جهته، يؤكد د. أحمد الغامدي على كون الطموح نحو الوحدة الإسلامية بمعناها السياسي الشامل لغيره من مضامين ودوائر الوحدة، يُعدّ طموحاً واقعياً، كما أنه من الحقوق المشروعة، لا يجوز لأحد مصادرتها أو الوقوف في سبيل تحقيقها كائناً من كان، لا سيما أن هذه الوحدة من أهم وأخطر واجبات الأمة الإسلامية التي لا يجوز لها التخلي أو التقاعس عنها مهما كانت المعوقات، بناءً على طبيعة النصوص الواردة بشأنها.
فكما هو معلوم أن الأمر للوجوب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا سيما أن الوحدة الإسلامية كانت واقعاً تنعم به الشعوب الإسلامية أزمنة مديدة على تعاقب الدول التي حكمتها مع تفاوت في تطبيقاتها، إلى أن جاءت معاهدة «لوزان» واتفاقية «سايكس بيكو» المشؤومتان اللتان حرمتا الأمة الإسلامية من نعمة الدولة الواحدة والهوية الواحدة والوطن الواحد؛ أي من المجال الذي كانت تحتمي به في ظل الخلافة الإسلامية.
والسؤال هنا: هل الشعوب الإسلامية الآن تطمح إلى الوحدة الإسلامية أم لا؟ الواقع أنه برغم ما بذلته الدول المحتلة من قتل وتشريد ونهب، وبرغم ما بذلته المنظمات المصاحبة لها من تغريب وتفريق، وبرغم ما تبذله الحكومات العميلة للاستعمار الأجنبي بعد خروجه من تغييب لثقافة الوحدة الإسلامية، بما تملكه من آلة هدم فكري وإعلامي عبر إحياء النعرات العرقية والطائفية والقطرية وغيرها من الوثنيات.. فإن الشعوب الإسلامية لا تزال تعبر عن إصرارها وعن مدى تمسكها بالوحدة الإسلامية، فهي تتنادى بالتلاحم والوحدة في كلّ محنة تمرّ بها.
وقد تجلى ذلك مثلاً خلال الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، كما تجلى أثناء العدوان البربري الصهيوني/ الصليبي على أهل غزة الشامخين بالعزة والإيمان والصمود.
ويذهب د. الغامدي إلى أن العوامل التي حالت بين الشعوب الإسلامية وتحقيق الوحدة بينها في كلّ المجالات، وخاصة الوحدة السياسية، يمكن حصرها في عاملين اثنين، هما:
الأول: أنظمة الحكم التي لا تعبّر عن طموحاتها الحقيقية.
الثاني: الدول المحتلة المهيمنة على البلاد الإسلامية.
ولقد تمثلت محاربتهما للوحدة الإسلامية، حسب رؤيته ومنظوره، في الآتي:
1- ما تمليه تلك الأنظمة الفاسدة والدول المحتلة والمهيمنة من تخويف للشعوب الإسلامية من بعضها بعضاً باسم الطائفية والهيمنة الأحادية والاستئثار بالمصالح وغيرها.
2- ما تبثه تلك الأنظمة الفاسدة والدول المحتلة أو المهيمنة المتعاونة معها، من تضليل وتشويه وتحقير للشعوب الإسلامية الأخرى.
3- ما تقوم به تلك الأنظمة الفاسدة والدول المحتلة والمهيمنة من ضرب للحركات والأحزاب الإسلامية التي تتبنى مشروع الوحدة الإسلامية كمبدأ وهدف إستراتيجي، يعزز مبدأ حماية الأمة الإسلامية من الأخطار وعودة مكانتها على الصعيد الدولي.
4- ما تخدّر به تلك الأنظمة الفاسدة والدول المحتلة والمهيمنة مشاعر الشعوب الإسلامية بالعمل على إنشاء مؤسسات لا روح فيها، لأنها انعكاس لسياسات تلك الأنظمة، التي لا تؤمن بهدف وحدة الأمة ولا تعمل من أجل تحقيقه.
الغامدي: الشعوب الإسلامية لا تزال تعبر عن إصرارها وتمسكها بالوحدة الإسلامية وتتنادى بالتلاحم والوحدة
إن هذه الأنظمة عامل فرقة وهدم للوحدة الإسلامية، وهي أيضاً ماضية في سبيل هدم كل عمل جاد يوحد الأمة ويلم شملها، تجاوباً مع مصلحتها الذاتية الرئيسة المتمثلة في البقاء جاثمة على صدور تلك الشعوب، وتناغماً مفضوحاً مع رغبات القوى الغربية والشرقية المهيمنة على بلاد المسلمين الناهبة لخيراتها ومقدراتها.
لكن السؤال العملي المهم: كيف المخرج من هذه الأزمة التي تقف حجر عثرة في طريق طموحات الأمة المسلمة، التي لن تتحقق إلا بتحقّق وحدتها؟
والجواب أن ذلك ممكن وليس بالمستحيل مع شدة صعوبته، فهذه المهمة الشاقة قد قامت بها مع تفاوت ملموس كثيرٌ من شعوب الأرض، فعلى سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية ألم تكن منطقة مستعمَرة ومجموعة ولايات متفرقة، وهي الآن أكبر قوة في العالم! وكذلك دول الاتحاد الأوروبي ألم تكن دولاً متناحرة متحاربة فيما بينها إلى عهد قريب، وها هي الآن بيت واحد! ولا ريب في أن وحدة الشعوب الإسلامية أيضاً ممكنة إذا أخذت بالأسباب الصحيحة الموصلة لها، وأهمها ما يلي:
– الرغبة الصادقة من الجميع في تحقيق الوحدة الإسلامية.
– العزيمة القوية، لا سيما عزيمة أهل العلم والفكر والرأي، في تحقيق وحدة الأمة.
– حشد مختلف الطاقات العلمية والفكرية والإعلامية والسياسية والاقتصادية من قادة العلم والرأي في الأمة لمشروع الوحدة الإسلامية، من أجل نشر مفهومه والتبشير بمردوده على الأمة وأجيالها، وعلى الإنسانية كافة.
– القيام بعمل مؤسساتي يتناسب ومهمة إعادة الوحدة الإسلامية من جديد.
– إنشاء مراكز بحث وتأصيل في كلّ مدينة وبلدة تؤصل مفهوم الوحدة وتنشر ثقافتها، وتردّ الشبهات التي يبثّها المغرضون أو المناوئون لمشروع وحدة الأمة.
– دراسة الواقع الإسلامي والعالمي ورصد إمكانية استثمار الفرص المتاحة من أجل التمكين لفكرة الوحدة الإسلامية وترسيخها.
– تفعيل الهيئات والمنظمات الرسمية القائمة في المجال الإسلامي، التي يمكن أن تكون أداة معزّزة لمشروع وحدة الأمة، كمنظمة التعاون الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي وغيرها.
– حشد الرأي العام وتأهيله كقوة ضاغطة على الأنظمة، للعمل باتجاه الوحدة الإسلامية باعتبارها ضرورة قصوى في هذه المرحلة، من أجل أمن الأمة الإسلامية، واستئناف دورها الدعوي والإنساني على الصعيد العالمي(8).
نستنتج من عرض أفكار ومرئيات أصحاب التوجّه الثاني أنهم يركزون أساساً على الجهود التمهيدية التي من شأنها أن تهيئ الظروف المناسبة لوحدة المسلمين السياسية، وذلك يعني في المقدمة التركيز والتشديد على إزالة العوائق وتذليل الصعوبات والموانع الإدارية والفكرية والسياسية التي وضعتها القوى الاستعمارية المعادية للإسلام والمسلمين ووحدتهم، كي يضمنوا ترسيخ وترسيم الواقع الذي وضعوه بأنفسهم وأشرفوا على تنفيذه منذ اجتماع «لوزان» ومعاهدة «سايكس بيكو» المشؤومة.
____________________________________________
(1) محمد أبو زهرة، الوحدة الإسلامية، دار الرائد العربي، بيروت، د.ت، ص312.
(2) عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، الأمة الربانية الواحدة، ص147-148.
(3) محمد المجذوب، الطريق السوي إلى وحدة المسلمين، دار الشواف، الرياض، ط2، 1995م، ص101.
(4) المرجع السابق، ص109.
(5) عبدالله العقيل، الطريق إلى وحدة إسلامية، مركز الإعلام العربي، ط3، القاهرة 2010م، ص39-40.
(6) أحمد عروة، الإسلام في مفترق الطرق، ترجمة عثمان أمين، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط1، الجزائر، 1981م، ص112.
(7) المرجع السابق، ص 113
(8) موقع الدرر السنية، تاريخ 16/ 12/ 2023م.