ألقت الطبيعة الجغرافية للأندلس بحكمها على شبه الجزيرة، فقد ولدت بعيدة عن أرحامها في المشرق الإسلامي؛ متفردة في موقعها، محاطة بأعدائها؛ فإلى الشمال كانت صليبية الفرنجة، وفي البحار المحدقة بها كانت أساطيل الأعداء في عصور الضعف تجد مستراحًا لها، فضلاً عن قوة أساطيلهم في البحر المتوسط الواصل بين الأندلسيين وإخوانهم المشارقة.
وفي عصور قوة الدولة الإسلامية وتوافر هيبتها لم تكن ثمة شكوك حول قدرة الحجاج الأندلسيين على أداء فريضة الحج في أمن ويسر، فقد كان أعداؤها منقمعين في حدودهم، منشغلين بردود الفعل تجاه قوة دار الإسلام، وظلت تلك الحال طوال العصر الأموي، وشطراً من العصر العباسي الأول.
في هذه الفترات تواصل الحج الأندلسي والمغربي، وتلاقحت أفكار أهل العدوتين مع إخوانهم المشارقة، وكان من بركات هذا التلاقح الفكري، والحراك العلمائي أن انتقل المذهب المالكي الفقهي إلى المغرب والأندلس، وظل مهيمنًا على أرجائها فيما تلا ذلك من عصور، وقد بدأ ذلك منذ زمن الإمام مالك بن أنس نفسه (93 – 179هـ)، الذي ارتحل إليه جماعة من نبهاء الأندلس والمغرب، منهم أبو عبدالله زياد بن عبدالرحمن اللخمي الشهير بـ«شبطون» (ت 193هـ)، وقد لقي مالكًا، وسمع منه، ويحيى بن يحيى الليثي (ت 234هـ) الذي أخذ «الموطأ» عن مالك نفسه، ووصفه مالك بأنه «عاقل الأندلس»، ومن أبرزهم بقيّ بن مخلد (ت 276هـ) الذي حج، وأخذ عن تلاميذ مالك، ولقي علماء العراق، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، وعلماء الشام ومصر، قبل أن يعود إلى الأندلس حاملاً معه عددًا من أمهات كتب العلم المشرقي، وذكر الذهبي من مناقبه أنه كان من كبار المجاهدين في سبيل الله، يقال: إنه شهد سبعين غزوة.
مصاعب في طريق الحج
لقد جعلت الخصوصية الأندلسية من أداء أهلها فريضة الحج موطن تساؤل في عصور ضعف المسلمين، هل يجب على أهلها الحج مع إحاطتهم بتلكم الأخطار المؤكدة، أم لا؟ وقد انضافت إلى صعوبات الجغرافيا وإحاطة الأعداء مخاوف من المتربصين من ثوار الداخل، والطامعين في الإمرة والتغلب من الخصوم السياسيين، أو الدول المناوئة القريبة؛ مع بُعد الشُّقة، وقطاع الطرق، ومظالم المكوس التي فرضها العبيديون (الفاطميون)، وقراصنة البحار، في رحلة طويلة تستغرق نحو عامين، وتحتاج إعدادًا للزاد والراحلة، وهم في ذلك سواء؛ أمراء ورعايا، ففي طوال حكم بني أمية الأندلس لم يحج أحد من أمرائهم، أو ممن تلاهم على تباين أسرهم الحاكمة.
الأولوية هناك للجهاد لا الحج
لقد تسببت هذه الظروف في ظهور جملة من الفتاوى لكبار علماء الأندلس والمغرب، تلبية لسؤالات الأمراء والرعية، وقد فتحت أفقًا لفقه الأولويات والموازنات، والنظر إلى الضروريات وتقديرها، فالأندلس دائمًا، والعدوة المغربية أحيانًا، أرض جهاد ورباط، كما أنها أرض انتقاضات وثورات، والحج في تلك الحال قد يكون تغريرًا بالنفس والمال، والحفاظ عليهما من مقاصد الإسلام.
لقد أرسل أمير المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين (حكم بين عامي 500 – 537هـ)، يسأل فقيه أهل الأندلس أبا الوليد محمد بن أحمد بن رشد (ت 520هـ): هل الحج أفضل لأهل الأندلس أو الجهاد؟ فكان جوابه بأن «فرض الحج ساقط عن أهل الأندلس، في وقتنا هذا، لعدم الاستطاعة التي جعلها الله شرطاً في الوجوب، وأن الجهاد أفضل منه؛ وبخاصة لمن حج حجة الفريضة، ولمن كان الجهاد فرض عين في حقه لأنه أحد أفراد الجيوش المدافعة، فهو أفضل من حجة الفريضة، قولاً واحداً.. وأنه لا يتعين تعجيل الحج إلا على من بلغ منهم المعترك»؛ ويعني بالمعترك العمر الذي يغلب على الظن وفاة صاحبه إن بلغه، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معترك أمتى ما بين الستين إلى السبعين».
ولم تختلف فتوى أبي بكر الطرطوشي (ت 520هـ) عن فتوى ابن رشد، فقد أفتى بأن الحج «حرام على أهل المغرب، فمن خاطر فقد سقط فرضه، ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر، وإن أمنت السبل ولم يخافوا، فالجهاد عندي لهم أفضل من تعجيل الحج»، وبمثل ذلك أفتى ابن حمدين، واللخمي، وآخرون من أئمة العدوتين الأندلسية والمغربية.
ولما سئل ابن رشد عن قوله في سلطان وجبت عليه فريضة الحج، وَيخاف أنه إن حَجَّ بنفسه اخْتَلَّ أَمْرُ الرَّعِيَّةِ، وَاسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بِلَادِهِم؛ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ يَحُجُّ بدله؟ فَأَجَاب: «إذَا تَحَقَّقَ مَا ذُكِرَ مِنْ اخْتِلَالِ أَمْرِ الرَّعِيَّةِ؛ وَفَسَادِ نِظَامِهِمْ؛ وَاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى بِلَادِهِمْ بِسَبَبِ حَجِّ هَذَا السُّلْطَانِ؛ فَلَا كَلَامَ فِي سُقُوطِ الْحَجِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيع».
لم تبعد تلك الفتاوى القديمة، إذن، عن فتاوى عدد من علمائنا المعاصرين الذين تنادوا بدعم حركات المقاومة في فلسطين، وأفتوا بأولوية الجهاد وتحرير الأرض والمسجد الأقصى عن حج النفل بعد أداء حج الفريضة.
وبالرغم من هذا النظر المقاصدي السديد للفتاوى في هذه المسألة، فقد أصر فقهاء معتبرون آخرون على إغلاق باب الأعذار كلها، والقول: إن فريضة الحج لا يمنعها شيء مما مضى، ومن هؤلاء ابن العربي المالكي، كما لم يُقم آخرون من الصوفية وزنًا للمصاعب والضرورات، ومن المؤسف أن نجد عند بعضهم مسائل من قبيل: هل يجوز الحج لمن اعتاد سؤال الناس، فيستنفق من عطاياهم طوال رحلة الحج؟ فلم يعدموا من أجازه لهم!
وكان بعض الناس يلجأ إلى حلول برجماتية لهذه المشكلة، فيلتحق بقوافل التجارة المتواصلة بين مغرب الإسلام ومشرقه، وهي قوافل كبيرة تسعى لتأمين نفسها بدفع إتاوات مالية لمن يضمن تأمين الطريق، وهي حلول فردية لم تكن قادرة على استيعاب ألوف الراغبين في أداء فريضة الحج.
وإزاء هذه الأوضاع اعتاض بعض الأندلسيين والمغاربة العاجزين عن الحج بتوجيه رسائل الشوق والحنين إلى الحرمين الشريفين، وكان بعضهم من السلاطين وأكابر العلماء والأدباء.
الدور الحضاري لرحلات الحج الأندلسي
ذكر المقّريّ في كتابه «نفح الطيب» ما يزيد على ثلاثمائة شيخ ارتحل في طلب العلم إلى المشرق فقط، ولطالما اتحد القصدان؛ الارتحال لطلب العلم والحج معًا، وقد ترك جماعة من هؤلاء سجلات لرحلاتهم؛ يمكن أن نميز بين نوعين منها؛ الأول: يعنى بذكر مراحل الرحلة، ومصاعب الطريق، وعجائب البلدان، وغرائب المشاهد، والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية، مما ينقل عبر الزمان صورًا من الحياة في تلك العصور، ويبين مدى التشابه الغالب على الأصقاع الإسلامية، بفعل وحدة الدين واللغة والمنطلقات، ومن أشهر رحلات ذلك الضرب رحلة ابن جبير (ت 614هـ)، والقاسم التجيبي (ت 695 هـ)، وابن بطوطة (ت 725 هـ)، وغيرهم.
بينما كان قصد آخرين -مع الحج- طلب العلم، ولقيا العلماء، منهم ابن الفخار الرعيني (ت 666هـ) في رحلته التي سجل وقائعها في كتابه «البرنامج»، ويعني به فهرست علمائه ومشايخه الذين التقاهم، مع ذكر بعضٍ من نتاجهم العلمي والأدبي، وكذلك فعل أبو عبدالله محمد بن رُشيد الفهري (ت 721هـ) في رحلته التي أسماها «ملءُ العيبة».
ومن هؤلاء العلماء من آثر المجاورة بمكة أو المدينة، وزادت مدة بقاء بعضهم عن أربعين سنة، ومنهم من بقي هناك حتى قضى نحبه، وقد تقلَّد بعضهم وظائف دينيَّة وإداريَّة بمكة والمدينة، ومنهم من تسنم ذروة عالية في السلم الاجتماعي بعد عودته، وتولوا الوظائف الدينية، كما برزت أعداد منهم في الجهاد ضد الصليبيين الغزاة للأندلس.
ومنهم من استقر به المقام في إحدى حواضر المشرق، يكمل بها مسيرته العلمية، مثلما فعل القاسم الشاطبي (ت 590هـ)، الذي استقر به المقام في مصر، فأفاد أهلها من صرحه العلمي الباذخ، ومنظومته العظمى في علم القراءات التي زادت على ألف بيت، وكذلك أبو بكر الطرطوشي (ت 520هـ) الذي ارتحل إلى المشرق عام 476هـ وحجّ، وطوَّف في العراق والشام، ثم استقر بمصر، فاستقبله الأفضل بن بدر الجمالي، وزير الخليفة الفاطمي، ووعظه الطرطوشي موعظة بليغة، وبها ألّف كتاب «سراج الملوك».