لا يخلو مجتمع عبر تاريخ البشرية من الظاهرة الدينية، والحاجة الفطرية إلى الدين، والتمظهر العلني الفردي والجماعي له بالتديُّن، وهو ما يعبَّر عنه بالوجود الاجتماعي للدين، فقد عاشت المجتمعات القديمة منذ العصر الحجري وفق معتقدات دينية، ومارست شعائر تعبدية، وخلَّدت تراثاً دينياً ضخماً، وصل إلى مستوى الأساطير الدينية التي حكمت سلوك الأفراد والمجتمعات والحضارات، فالإنسان ذو فطرة دينية، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: «كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجِّسانه..»، وكما هي الحاجة الفطرية للدين على مستوى الأفراد، هناك حاجة جماعية إليه كمؤسسات.
ورغم أن المؤسسة الدينية متأخرة جداً من حيث الظهور عن الدين ومظاهر التدين، أي أن مأسسة الدين ليست قديمة قِدَم الدين نفسه؛ فإنها ظهرت بشكل جلي في أماكن العبادة البسيطة، ثم تطورت وأخذت أشكالاً أكثر تحضُّراً، مثل المساجد والكنائس والدُّور والجماعات الدينية؛ وهو ما يعني أن ظهور المؤسسات الدينية وتطوُّرها مرتبط بتطور الحياة المدنية للإنسان؛ أي بتطور التاريخ في حدِّ ذاته، وهو ما جعلها تتزايد كماً ونوعاً، وخاصة في المجتمعات المحافظة، فأخذت المؤسسة الدينية تاريخاً من الظهور الرسمي لها، وبرزت كمؤسسة من المؤسسات التي لها دور وتأثير ونفوذ، تصل إلى درجة المرجعية العليا والسلطة الدينية الأسمى في المجتمع.
بعض الأنظمة العربية والإسلامية لم تُخْفِ تأميم الدين واحتكاره بتوظيف المؤسسات الدينية الرسمية
ومع أن المفاهيم تعاني دائماً من إشكاليات معرفية، ومنها: الاختلاف وعدم الاتفاق على تعاريفها الجامعة والمانعة، فإن مصطلح «المؤسسة الدينية» في عالمنا العربي والإسلامي يمكن إجماله بما يستوعب بنْيتها وأهميتها ووظيفتها، التي تعني: الهيئة الدينية المنظمة والرسمية، ذات المهام والوظائف المحددة والدائمة، كوزارة الشؤون الدينية والأوقاف والزكاة والحج، والجامعات والزوايا والمدارس القرآنية، وهيئات الإفتاء والتوجيه الديني، التي تقوم بأدوار ثقافية واجتماعية وروحية، وإنْ كانت تتداخل في المهام والوظائف مع بعض المؤسسات غير الدينية، وبالتالي فهي تحتل مكانة مركزية ومحورية في حياة الشعوب والدول، نظراً لتأثيراتها الناعمة في الحياة العامة.
ونحن نتحدث هنا عن المؤسسة الدينية، التي تُطلق غالباً على المؤسسات الرسمية، لا على المؤسسات الدينية غير الحكومية، كالجمعيات الخيرية والمنظمات التطوعية والأحزاب الدينية؛ وهو ما يطرح إشكالية الأدوار الحقيقية لها بين عملية الإحياء الحضاري للأمة وعمليات الاحتواء العلماني لها من الدولة.
فبالرغم من موجة العلمانية الطاغية التي اجتاحت العالم، وخاصة بعد الثورة العقلانية ضد الكنيسة في الغرب، وبالرغم من طوفان بعض الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية المعاصرة، فإنه تجدَّد الطلب على «الدِّين» في الحياة السياسية وفي الحياة العامة، وعاد الدور المتجدد له في الصناعة السياسية والتأثير المجتمعي، لم تصمد الحداثة المعاصرة أمامه طويلاً.
وبالرغم من المحاولات المستميتة في جعل الدولة الحديثة دولة مواطنة، لفرض منطق تحييدها عقائدياً، وإخراجها من الصراعات الدينية، والارتقاء بها إلى مستوى الدولة المؤسسية المدنية غير الأيديولوجية، ومع ذلك فقد ظهر التوظيف السياسي الرسمي للدين، وتم توظيف العلمانية كوسيلة للدولة من أجل التحكم في الدين؛ مما جعل بعض الأنظمة تستعمل «الدِّرع الديني» كأحد أركان الاستبداد عبر المؤسسة الدينية والفكر الدّيني الموجه لشرعنة السلطة دينياً وأخلاقياً، فلم تُخْفِ بعض الأنظمة في البلاد العربية والإسلامية تأميم الدين واحتكاره، بتوظيف المؤسسات الدينية الرسمية، مثل: السيطرة على المساجد والزوايا من أجل توجيهها والتحكُّم في التأثير الديني لها.
.. وتفنَّنت في توظيف المؤسسة الدينية التقليدية في مواجهة المشروع السياسي الحضاري للإسلام
فقد شهدت العقود الماضية ظهور السياسات ذات الصبغة الدينية في بعض الدول العلمانية -ظاهرياً- وهو ما يُسمى بالاستغلال الذرائعي للدين، في العلاقة غير الشرعية للسلطة بالدين، استغلالاً له دون تبنِّيه منهجاً وسلوكاً، شريعة وقانوناً حقيقة، فيتم استدعاء الدين في كل مرة لإضفاء الشرعية على الحاكم وضمان الولاء الديني له، وتوظيف المشاعر الدينية والقومية من أجل ترسيخ الرضا الأعمى لسلطة الدولة على الأفراد والمجتمعات.
فقد تفنَّنت الأنظمة الاستبدادية في توظيف المؤسسة الدينية التقليدية في مواجهة المشروع السياسي الحضاري الإحيائي للإسلام، عبر دعاوى «تجديد الخطاب الديني»، وإعادة النظر في النَّص الديني، ومراجعة الموروث التراثي الفقهي، بل وفي تأميم واحتكار المؤسسة الدينية الرسمية، وتمييع المنظومة التربوية والتعليمية والإعلامية، وتفريغها من أي بُعد ثوابتي وهوياتي، تحت غطاء مكافحة «الإرهاب» وتجفيف منابع التطرُّف، وقد صدق نصير الحرية وعدو الاستبداد الإمام عبدالرحمن الكواكبي في فضح مثل هذه الأدوار التبريرية للحاكم باسم الدين: «أن الاستبداد في السياسة متولِّدٌ من الاستبداد في الدين أو مساير له».
إلا أن المتأمل في صفحات التاريخ الإسلامي، وبالرغم من تلك الظاهرة المشؤومة لفقهاء السلطان وعبدة الحاكم المتغلِّب، ومع ذلك فإنها لا تخفي حقيقة ناطقة، وهي أن الذي صنع الحضارة وحافظ على حيوية الأمة لم تكن السلطة السياسية، فقد سجَّل التاريخ صفحات سوداء عن بعض أمرائها الذين كانوا أقرب إلى الفساد والانحلال والدكتاتورية والمُلك العضوض، وهي من المراحل الصارخة بالأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية بعد الخلافة الراشدة.
وبالرغم من تلك المظاهر المؤسفة لفساد الملوك والأمراء، فإن تفاعلاً مجتمعياً في عمق الأمة كان يحافظ على الأمل لترجيح كفَّة الفعل الحضاري على حساب الفساد السياسي، فكان المجتمع هو مَن يقف على ثغرة الهويَّة والقيم، وكان تأثير ما يُسمى اليوم بالمؤسسات الدينية والمجتمعية أقوى من تأثير الدولة في تنظيم الشعوب وتوجيه الأمة، إذ إن صناعة الحضارة لم تُكتب صفحاتها على يد الحكام، بل بدأت فاعليتها في العمق من تحرير الإنسان في ضميره وإرادته وفكره وسلوكه عبر الاجتهاد والإبداع والتجديد على مستوى المجتمع، وليس على مستوى السلطة.
المؤسسة الدينية بحاجة إلى نقد ذاتي ومراجعة حقيقية من أجل إعادة هيكلتها والارتقاء بأدوارها
وحتى في لحظات الانفصال بين السياسة والحضارة، فقد فرض واجب الوقت أن تتحمل تلك المؤسسات الدينية عبء الفاعلية الحضارية، وكان وَقُودَها العلماء والمفكرون والقضاة والمحتسِبون والمبدعون والأدباء والمثقفون.. وغيرهم من صناع الرأي وأرباب التأثير في الواقع، الذين لا ينتظرون ترخيصاً من الحاكم.
وقد تجلَّت مظاهر ذلك في انتشار المدارس القرآنية والتعليم الشرعي وسلطة الإفتاء ورسالية المساجد ومجالات الأوقاف ودور الزكاة ومظاهر التكافل الاجتماعي وتنوع أوجه التطوع، التي مثَّلت صوراً مشرقة من روائع الحضارة الإسلامية، وجسَّدت كيانات تعاونية مؤسسية مستقلة وفاعلة، إذ تحالف الحفظ الإلهي النظري للهوية والقيم في المجتمع بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، مع الحفظ العملي لها عبر واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل استقلالية بواسطة العمل المؤسسي والفعل الحضاري المنظَّم، كما قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104).
وبين ذلك الدور الإحيائي التاريخي للمؤسسة الدينية، وواقع احتوائها في العصر الحديث فإنها بحاجة إلى نقد ذاتي، ومراجعة حقيقية، من أجل إعادة هيكلتها والارتقاء بأدوارها من أجل الإحياء وحمل أمانة الدين بحق، بعيداً عن التوظيف السلطوي وسياسات الاحتواء البيروقراطي لها، وأن التعامل مع المستوى الرسمي والشعبي لها بكل استقلالية وسيادية هو ما يحافظ على الدور الحضاري لها لصالح الأمة، بما يجعل الدِّين في صالح الإنسان والإنسانية المعذبة، فلا تجعل الدين منعزلا في صور شعائر تعبدية، بعيداً عن التفاعل مع القضايا الكبرى التي تشغل الحياة المعاصرة، وأن صناعة الإنسان الرسالي هي الوظيفة الحضارية والمهمة المقدسة لهذه المؤسسة الدينية، وعليها أن تؤديها خالصة لله تعالى، إذ إن التناغم مع النهضة الإنسانية والوظيفة الحضارية للدين مرهون بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية لها.