تعقيب على ربانية التعليم (2 – 2)

المعايير النسبية لربانية التعليم

كلمات التقوى وصفات المرونة مصاعد الاجتهاد، ولكن نضبط هذا الانفتاح في الكلام بشروط، منها:

الشرط الأول:

أن يكون كلام الرقائق مشاعًا في أوساط الدعاة بحيث تميل المواعظ وأحاديث الأخلاق الإيمانية بالداعية إلى التواضع والأدب في التعامل واحترام المقابل وعفة اللسان إذا أغرته أحاديث الأصول والقواعد بإبداء نقد أو التقدم بين يدي أساتذته.

الشرط الثاني:

أن يرافق ذلك سعي لشرح النظرية السياسيةالإسلامية وأبعادها لأن المعاني الكلية والتعميمات إذا لم يفهمها الداعية جيدًا وأخذها على ظاهرها فلربما يذهب في التأول بعيدًا ويميل إلى إطلاق الأحكام الحادة، فينفي بقواعد الجهاد احتمالات الهدنة، ويلغي بموازين الاستقلال مناورات التحالف، ويستعلي بأحاديث العزة والصبر على إفتاء الضرورات، بينما تمده النظرية السياسية الإسلامية الشاملة بعقلانية وتوازن مع المحيط، وتجعله أحفظ للدماء والأموال والأعراض، وأحرص على تقليل الثمن الواجب عليه دفعه، وتهبه من المرونة ما يتملص به من المحاصرات أو تنفذ به إلى حضور قسمة له فيها نصيب إذ يريدها المنافسون أن تكون ضيزى.

القضاة الفاضلون في دار الأمان

الشرط الثالث:

أن تتوافر قدوات كافية في المحيط الدعوي من قادة ومربين وعلماء يعجلون بالرد والتقويم وإرجاع الأمور إلى نصابها الصحيح إذا اشتط مغرب فركب شذوذًا لأن الاعتماد على الكتابة يسبب تسويفًا وتأخيرًا ولربما وصلت الصفحات بعد الخراب بينما يؤدي الاستدراك السريع من القنوات النازلة إلى ميدان المخالطة دوره بشكل آكد، فإن لم ينفع لفظ نفع آخر، وإن انغلق معنى فتحه تمثيل، وإذا أشكل قياس أظهره تعليل، نقدًا، يدًا بيد، هاء بهاء، غير نسيئة ولا محال إلى مؤتمر لاحق.

الشرط الرابع:

ألا يكون الزمن زمن فتنة وخلاف فإن حرص النفوس على حظوظها يجعل بينها وبين الصواب القريب حجابًا حيث يغلب على الأفئدة أن تطيع أهويتها، ومن الخير آنذاك أن نجمد الأفكار ونقطع لسان الأصول والكليات وكبار العلم ليتاح مجال للتقوى أن تهمس في الآذان داعية لنفسها ولتكون لحروف الإصلاح بين الناس قناة جارية.

في الرواق والركن لا في الساحة

الشرط الخامس:

ألا يكون قصد المفكرين والقادة الكلام بكبار العلم في المؤتمرات والصحف عن عمد واستمرار يجعلها هي الموطن الطبيعي لهذا النوع من الكلام، أو الموطن المختار، وإنما يجعلون ذلك من باب الاستثناء بقصد اكتشاف وإثارة وتشجيع عناصر قوية ذات إبداع ربما لا يصلون لها بطريق الاتصال الخاص، وأما كثافة ما ينقلونه من كبار العلم مما علمهم الله فيجب أن يكون عبر المدارس القيادية والمجالس المنهجية المتكررة، ليتم الشرح بأوفر ما يكون البيان وليكون الحوار المباشر المستخرج من قلب الأستاذ لما لم يكن قد زوره سلفًا من المعاني والإرشادات.

ننتظر رشد الرهط

الشرط السادس:

أن يشدد في تعليم الفروع وصغار العلم أيام مراهقة العمل الدعوي في بلد ما، فكل عمل يمر بمرحلة المراهقة هذه بعد اكتمال تأسيسه وقبل توسعه وانفتاحه، وهي ذات ظواهر نفسية تعتري المجموع تشابه إلى حد كبير طباع الفتى المراهق من تقلب الرأي والعناد، والإغراب، والجنوح إلى الخيال، وحب المغامرة، وكراهية الرقابة فإذا جاءت المباحث العالية وحقائق العلم الكبيرة في أيام المراهقة الحركية هذه، فإن المجموعة يمكن أن تنحرف بها إلى جدل طويل يصاحبه اختلاط الأصوات أو تجنح به إلى اجتهادات شاذة ينكرها عُرف الفقهاء المجربين، ولكن يكون تداول كبار العلم بعد مرحلة المراهقة هذه، إذ تهدأ النفوس وتميل إلى العقلانية وتشعر بضرورة الواقعية، وعندئذ يؤتي تعليمها نتيجته المرجوة، ويساعد على تفجر الإبداع الشخصي لدى أذكياء الدعاة، ومثل هذا التعليم في المرحلة المتقدمة يفترض أن يقوم به جيل من المتعلمين تربى على كبار العلم من قبل في مرحلة التأسيس من خلال دورات خاصة ورعاية مكثفة.

والالتزام بالمنهجية في العمل والموضوعية في الفكر تعصم من الانحراف.

الشرط السابع:

والالتزام بالمنهجية في العمل والموضوعية في الفكر تعصم من الانحراف فإذا شاعت مجموعة من المبادئ المنهجية والأعراف الصحيحة والموازين الدقيقة في مجموعة الدعاة، ولدت كبحًا للفهم الخاطئ.. وبها نمنع تسرب التفاسير المشوشة والتأويلات المفرطة البعيدة وبذلك تظل الأجواء نظيفة دائمًا، وتعمل القواعد المنهجية والأعراف التنظيمية كمرشحات تحول دون سلبيات الانفتاح وخصوصًا إذا أضيف إلى ذلك إشاعة مفاهيم أدب الحوار وأخلاق المناظرة، واعتاد عليها الدعاة من خلال الممارسة والتطبيق مما يجعل الشطط دائمًا يحصر في أضيق الدوائر.

كلما كانت شروط التوثيق وقواعد الانتقاء أكثر وضوحًا قلت السلبيات في تعليم كبار العلم وكلياته.

كوابح تمنع التصدر

الشرط الثامن:

وكلما كانت شروط التوثيق وقواعد الانتقاء أكثر وضوحًا في محيط الجماعة والضوابط الحازمة أشد سيطرة قلت سلبيات تعليم كبار العلم وكلياته، لأن حديث القواعد والأصول فيه بلاغة وجمال صياغة وفيه دغدغة لعقول الشباب الأذكياء، وقد يستغل معلم متطلع إلى مراكز الصدارة هذه الخصائص في طبيعة هذه القواعد فيستثير بها إعجاب الشباب، ويصنع له «شلة» موالية، ويجعل اللذة التي تصاحب كلماته ثمنًا يدفعه لإدامة ولاء هؤلاء، غير ناظر إلى ما يسببه لهم من فتنة بحديث فوق مستواه، حتى لكأنه فيلسوف يديم انشداد الناس إليه بغموضه وتمتماته المبهمة، بينما يؤسس فقه التوثيق جملة قناعات في نفوس الشباب تمنعهم من السير وراء من لا يملك غير اللسان وتزويق الكلام.

كانت المتاهة رغم وضوح المعالم الهادية

ويؤكد الظن في لياقة بعض المبتدئين لسماع الأصول والقواعد: مشاهدات حيوية وتاريخية تشير إلى أن فتنة بعض المبتدعة كانت بسبب فهم قاصر لبعض الفروع، وتنزيلهم لها على غير منازلها، أو قياسهم عليها قياسًا مع الفارق، ويغنينا عن تتبع الشواهد لهذه الملاحظة في التاريخ الإسلامي القديم ما شاهدناه ومازال خبره حيًا فينا من وهم التكفير لدى بعض الشباب المتحمس الصادق التوجه بلا شك، فإن ظاهر النصوص المفردة الفرعية الجزئية في أبواب الردة والكفر هي التي تسببت في شطحاته ومذاهبه القاصية عن مقاصد أهل السُنَّة والجماعة.

ولذلك كان رد من رد بدعتهم معتمدًا على الأصول والقواعد بشكل مكثف، وجاء مثل رد الشيخ القرضاوي في نقض التطرف مفهومًا مع أن قلمه جال في ذروة الفقه وحام حول أعلاه، وكذلك كانت الأصول العشرين من قبل مما يمنحنا قناعة بأن الأمر يتعدى مجرد الأسلوب التقليدي في دراسة صغار العلم وجزئياته قبل كباره وكلياته وأن طرق التدريس ومناورات الكتابة إذا كانت ماهرة واستوعبت أطراف المعاني فإن عظام المسائل تلين قناتها وتصبح سلسلة مفهومة، ولا تستلزم هذه القناعة ادعاء هدر العلم الجزئي تمامًا والبدء بتداول الكليات دون سابق أية معرفة بجزئيات الأحكام كما لا يستقيم الاعتراض على هذه القناعة بمثل هذا الإلزام لما لا يلزم، بل قلّ أن يوجد داعية يرتاد المساجد ويسمع خطب الجمعة والمواعظ على مثل هذه الدرجة من التعري والتبري من علم الجزئيات، ولكن قناعتنا تفهم بالحسنى وبالحدود الوسطى وهي تأكيد لعدم الإسراف في تدريس الجزئيات والمقدمات أكثر مما هي محاولة تجاوزٍ وهجرٍ لها(1).


للمزيد:

- المعايير النسبية لربانية التعليم

- آفاق الربانية

- ربانية التعليم  

- الأسبوع الدراسي الأول.. والتحديات الجديدة

- رسالة وزير التربية إلى نظَّار المدارس في الكويت

- لقاءات «المجتمع» مع الأستاذ خالد المذكور المعيد بجامعة الكويت  

- وزارة التربية تعلن مسؤولياتها في مطلع هذا العام الجديد

- في مدرستنا طالب منحرف!

- التنشئة العلمية للطفل المسلم ضرورة عصرية

- مناهج التربية الدينية.. بين الواقع والمأمول

 

 


______________

(1) نُشر بالعدد (1009)، 27 المحرم 1413هـ/ 28 يوليو 1992م، ص48.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة