بين الهنود الحمر والفلسطينيين..

محاولة لفهم الجذور الثقافية للتأييد الأمريكي المطلق لـ«إسرائيل»

د. مأمون فندي

05 أكتوبر 2025

118

رغم تزايد القتلى في فلسطين، ورغم حيوية المصالح الأمريكية في العالم العربي كسوق للبضائع الأمريكية، وكمصدر للطاقة الحضارية الغربية بمجملها، رغم كل ذلك فإن الولايات المتحدة ما زالت تؤيد مواقف «إسرائيل» المتعنتة والتي تهدف إلى إذلال العرب شعوبًا وحكومات، والسؤال هنا: لماذا هذا التأييد لـ«إسرائيل»؟! ولماذا تجاهل الحق العربي والإسلامي؟!

تكمن الإجابة عن هذا السؤال في جانبين:

أحدهما: يتعلق بأمريكا وتكوينها الحضاري تاريخيًا، والثاني: يتعلق بالعالم العربي الإسلامي من حيث التنسيق بين هيئاته الشعبية وحكوماته.

لكي نفهم الجانب التاريخي للدعم الأمريكي لـ«إسرائيل» لا بد من أن نعرج على عملية بناء الدولة الأمريكية، فقبل دخول كولومبس لأمريكا وحتى قدوم جماعات البيروتانز من بريطانيا كانت الأرض الأمريكية ملكًا لجماعات أصلية أطلق عليهم خطأ اسم «الهنود الحمر» تحكم المناطق الأمريكية في إطار نظام قبلي، وكانت لكل قبيلة عاداتها وتقاليدها.

عندما دخلت الجماعات المسيحية البروتستانتية والتي كانت تطلق على نفسها مسمى البيوريتانز أو «المتطهرين» وحكمت في مستعمرات بليموث (1636م)، وفي ما ستشوسيتس (1650م)، دخلت هذه الجماعة أمريكا في إطار جماعي يصور البيورتانز على أنهم قوم موسى الهاربين من بطش الفرعون الإنجليزي، ولذلك كان حديثهم دائمًا مستقى من الأساطير العبرانية، متصورًا أن أمريكا هي «أرض الميعاد» التي سوف يقيمون فيها دولتهم، والتي هي بمثابة نور فوق التل يضيء للبشرية طريقًا جديدًا.

شعب الله المختار

كذلك رأى البروتستانتيون أنفسهم في صورة «شعب الله المختار»، والذي ائتمنه الله على هذه الأرض.

كذلك تصور هؤلاء المستعمرون الشعب الأصلي للبلاد «الهنود الحمر» على أنهم الكنعانيون القوم الذين يحثهم الإله على إبادتهم، وبالفعل جاءت سياسات البيورتانز تجاه أهل البلاد الأصليين مدفوعة بأيديولوجية «شعبالله المختار»، و«أرض الميعاد»، والقضاء على الكنعانيين وإقامة صهيون كدولة جديدة، لذلك بدأت حرب الإبادة ضد «الهنود الحمر» دونما أي نوع بالإحساس بالذنب لدى البروتستانت؛ لأنهم رأوا في قتل هؤلاء القوم نوعًا من إرضاء الإله، ولما تمكنت الدولة الأمريكية من السيطرة بدأت في إقامة اتفاقات سياسية مع سكان البلاد الأصليين بعضها ألزمهم ببيع الأراضي للدولة الجديدة مقابل تنازلات تمنحهم حقوق الصيد في منطقة الغرب ودونما دخول في تفاصيل جانبية يمكننا تلخيص القول بأن أمريكا نقضت معظم عهودها لحكام هذه القبائل باستثناء مجموعة قليلة من المعاهدات التي جعلتهم أخيرًا يقيمون في مناطق حكم ذاتي معزولة، هذه المناطق بالطبع لا تخضع لقوانين الولايات التي هي فيها ولكنها تخضع لسيطرة الحكومة الفيدرالية، وبذلك انحسر تواجد الهنود الحمر من كونهم أهل البلاد المسيطرين إلى وجودهم في تلك المعازل البعيدة عن المجتمع الأمريكي المتحضر ويعيش الهنود الآن في معازلهم في جو مفعم بالأمراض الجسدية والاجتماعية، وتتناقص أعدادهم في كل عام إلى أن ينتهي وجودهم من على الأرض الأمريكية.

كما هو واضح بدأت الدولة الأمريكية كصهيون أو «إسرائيل» جديدة تصور من أقاموا هذه الدولة على أنهم «شعب الله المختار» ورأوا أعداءهم في صورة الكنعانيين الذين يستحقون الإبادة، ولكن وبدوافع إنسانية فرضتها فيما بعد معطيات كثيرة تسامحت أمريكا في وجود الهنود الحمر في مناطق معزولة عن البيض، وفي إطار معاهدات حكم ذاتي، إن كانت تلك هي أساسيات البناء الأمريكي فكيف يمكن لأمريكا والشعب الأمريكي أن يطالب بهدم هذه الأساسيات في مكان آخر: "إسرائيل"؟ أمريكا بنيت على نفس الأسطورة الصهيونية، وبالتالي فإن مطالبة الأمريكيين للإسرائيليين بالتخلي عن التصور الصهيوني للسيطرة على فلسطين يكون فيه نوع من نفي الذات.

إن وجود تلك الذاكرة التاريخية الأمريكية يعد معضلة معرفية للشعب الأمريكي في تعامله مع القضية الفلسطينية، فبدلًا من قراءة الحقائق في أرض الواقع والتي هي واضحة للجميع في سياسات "إسرائيل" الاستيطانية والتوسعية، بدلًا من قراءة هذه الحقائق يعرض الشعب الأمريكي عن ذلك باسترجاع ذاكرته التاريخية فيرى «الإسرائيليين» في صورة أجداده البيورتانز البروتستانت ويرى الفلسطينيين في صورة الهنود الحمر «الكنعانيون»، هذه الرؤية تملي على الإنسان الأمريكي العادي والمثقف معًا موقفًا يأتي متعاطفًا مع «إسرائيل» في معظم الأحيان.

«أوسلو 1» و«أوسلو 2»

كذلك جاءت سيطرة هذه الذاكرة التاريخية واضحة عندما طرح التصور الأمريكي للحكم الذاتي الفلسطيني سواء في مبادرة وليم روجورز في الستينيات أو في مبادرة كامب ديفيد في السبعينيات، أو حتى في الفهم الأمريكي الأخير له «أوسلو 1» و«أوسلو 2»، في كل تلك المبادرات لم ير الساسة الأمريكيون الحق الفلسطيني أكثر من كونه المعادل الموضوعي لحق الهندي الأحمر في أمريكا، هذا الحق يتمثل في إقامة الفلسطينيين في معازل مثلهم مثل الهنود الحمر، تخضع هذه المعازل في النهاية لسيطرة «إسرائيل» الكاملة فيما يخص الدفاع والعلاقات الخارجية، هذا هو التصور الأمريكي للموقف.

ياسر عرفات الطامح إلى بناء دولة فلسطينية

وليس تصور عرفات الطامح إلى بناء دولة فلسطينية عاصمتها القدس، ولكن هذا التصور ليس ثابتًا تمامًا في كل الأحوال، لأنه وفي دولة أخرى بنيت على نفس أساطير «شعب الله المختار»، وهنا -أعني جنوب أفريقيا العنصرية- لم تدم الأسطورة طويلًا، واستطاع السود فرض السيطرة في دولتهم بقيادة نيلسون مانديلا، ولكن الفارق الوحيد هو أن عرفات ليس مانديلا.

ما الذي يمكن عمله في هذا الإطار؟ وكيف يمكننا التعامل مع ساسة أمريكيين تسيطر على رؤيتهم للمنطقة العربية صورة أسطورية تمنعهم من قراءة الواقع؟

بدايةً يجب أن يقام حوار على جوانب متعددة مع المثقفين الأمريكيين وكذلك الساسة الأمريكيين، يواجههم بحقيقة معرفتهم بالقضايا العربية هذه المعرفة المبنية على مخيلات أسطورية تختلف تمامًا عن معرفة تأخذ الحقائق التاريخية والسياسية في الاعتبار، فلا يكفي أن يستعيد الأمريكي ذاكرته التاريخية كبديل لفهم الحقائق الشرق أوسطية.

هذا التخيل لا يرتبط بالقضية الفلسطينية و"إسرائيل" وحسب، ولكن كذلك في مدى فهم الساسة الأمريكيين للصحوةالإسلامية، فهم يرون الصحوة الإسلامية بمثابة المعادل الموضوعي لفلسفة البيورتانز أنفسهم هذه الفلسفة التوسعية التي أدت إلى سيطرة أمريكا وإبادة الهنود الحمر وبذلك تكون الأصولية الإسلامية هي بالضبط الأصولية البروتستانتية إذا كانت نتيجة الأصولية البروتستانتية هي السيطرة على الأرض الأمريكية وإقامة الدولة، فيتبع ذلك فهم للأصولية الإسلامية على أنها ترمي إلى بناء دولة مثلما بنيت أمريكا، كذلك في أيديولوجية توسعية ترمي إلى إبادة "إسرائيل" كما أبادت أيديولوجية البيورتانز الهنود الحمر.

يجب هنا التوضيح للمثقف الأمريكي أن هناك أوجه اختلاف بين الصورتين أكثر من وجود تشابه أن الفلسطينيين ليسوا بالهنود الحمر وأن الإسلاميين ليسوا بالبيورتانز، ولبداية هذا الحوار يجب على المثقف العربي الإلمام بالتاريخ الأمريكي ومعطيات الحياة الأمريكية السياسية والاجتماعية، وحتى لا نقع في نفس الفخ المعرفي ونناقش أمريكا وتاريخها من خلال استرجاع ذاكرتنا التاريخية أيضًا.

إن لم نواجه هذه القضايا معرفيًا لنتأكد من التصور الأمريكي للمنطقة سنبقى حالمين بإقامة دولة فلسطينية رغم أن ما هو موعود لنا لا يتخطى معازل للهنود أو للفلسطينيين، والموقف الأمريكي المتداخل في الثقافة والتاريخ ليس كافيًا لتفسير ما يحدث الآن، فالموقف العربي كذلك على مستوى الشعوب والحكومات تجاه هذه القضايا يسهم بشكل كبير في صياغة الموقف الأمريكي المتحيز تجاه الشرق الأوسط.

وألخص هذا الدور في بعض النقاط:

1- نتيجة العمل الجماعي:

بداية يجب أن نعرف أنه عندما كان هناك موقف متناسق تمثل في مقاطعة بترولية للغرب في عام 1973م رضخ الغرب للمطالب العربية، إذن العمل الجماعي يأتي بنتائج ولا داعي للتذكير بالأشياء الواضحة، ولكن تدريجيًا تفرقت المواقف العربية عندما بدأت الدول تنظر إلى مصالحها الضيقة والمحدودة، هذه النظرة الضيقة لم تسيطر على الدول فقط، مهمة على الجماعات التي تدعي الثورية وحماية المصالح الوطنية، فوجدنا على سبيل المثال ولفترة لا تتعدى عامين على مؤتمر مدريد السيد عرفات يدخل في مفاوضات سرية في أوسلو، والملك حسين يوقع اتفاقية سلام دونما تنسيق مع أي طرف عربي آخر، هنا لا بُدَّ من توضيح نقطة هامة وهي أن المفاوضات السرية التي قام بها السيد عرفات جاءت لصالح "الإسرائيليين" أكثر من كونها لصالح الفلسطينيين.

2- نجاح المفاوض «الإسرائيلي» في شق الصف العربي:

ففي «أوسلو» تغاضى الفلسطينيون عن أهمية قرارات الأمم المتحدة (242)، (338)، كذلك تغاضى الفلسطينيون عن مبدأ الأرض مقابل السلام وبذلك نجح المفاوض "الإسرائيلي" ليس فقط في شق الصف العربي، ولكن كذلك في تقويض أي تفاهم أقيم عليه مؤتمر مدريد 1990م، ولم يكن ذلك بالنجاح الوحيد للسياسة «الإسرائيلية» - الأمريكية، فقد نجحت السياسة الأمريكية – «الإسرائيلية» في المنطقة كذلك في القضاء على إمكانية وجود صف عربي واحد تجاه هذه القضايا، وكذلك في إقناع القادة العرب أن عدوهم هو شعبهم وليس «إسرائيل»، صورت للقادة العرب أن العدو هو الخطر الإسلامي وليس الخطر النووي «الإسرائيلي» وسياسات الاستيطان التوسعية، في ظل هذا الانشقاق بدأ كثير من العرب يتبنون الرؤية الأمريكية للمنطقة التي ترى أهل البلاد الأصليين إما في صورة هنود حمر، يجب وضعهم في معازل أو سجون أو في صورة الأصوليون الذين إن لم يحجموا سيقيمون دولة إسلامية توسعية كما أقام البروتستانت دولة في أمريكا.

في إطار هذا التخبط الفكري على المستوى العربي، وفي إطار الإصرار الأمريكي على فهم حقائق المنطقة من مرجعيته التاريخية الخاصة يمكننا فهم الانحياز الأمريكي للعنجهية «الإسرائيلية» في المنطقة(1).

 

للمزيد:  

- الكويت تودِّع شهداءها

- المعايير النسبية لربانية التعليم

- آفاق الربانية

- ربانية التعليم  

- الأسبوع الدراسي الأول.. والتحديات الجديدة

- رسالة وزير التربية إلى نظَّار المدارس في الكويت

- لقاءات «المجتمع» مع الأستاذ خالد المذكور المعيد بجامعة الكويت  

- وزارة التربية تعلن مسؤولياتها في مطلع هذا العام الجديد

- في مدرستنا طالب منحرف!

- التنشئة العلمية للطفل المسلم ضرورة عصرية

- مناهج التربية الدينية.. بين الواقع والمأمول

 

 


____________________

(1) نُشر بالعدد (1220)، 25 جمادى الأولى 1417هـ/ 8 أكتوبر 1996م، ص44. 

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة