توصف معظم المجتمعات الإنسانية من كل الديانات بأنها مجتمعات مؤمنة بوجود إله يحكم ويسيطر على هذا الكون؛ حيث إن الإلحاد الذي ينفي وجود إله ويرجع وجود الكون للصدفة والطبيعة لا يشكل أكثر من 10%، حيث تشير بعض التقارير إلى أن الديانات الأربع الأولى والأكثر انتشاراً في العالم هي المسيحية بالدرجة الأولى، ومن ثم الإسلام، ثم الهندوسية، فالبوذية ثم يأتي الإلحاد في الدرجة الخامسة الذي يرفض فكرة الدين ووجود الإله من الأساس.
نشأت الحاجة الفطرية الغريزية للدين في النفس الإنسانية من الشوق الإنساني للارتقاء والتميز والتسامي، حيث يشعر الإنسان أن الحياة قصيرة ولا بد من وجود حياة أخرى أطول وأفضل تعوض كل النقص الموجود في هذه الحياة، كما أن الحاجة للدين تنتقل بالإنسان من التطلعات الدنيا إلى التطلعات العليا، كما أن الدين يلبي حاجة الإنسان في البحث عن الحقيقة المطلقة، ويلبي الشوق الإنساني لاكتساب قوة أكبر من القوة في الحياة الدنيا التي يملكها.
يقول المفكر القطري د. جاسم سلطان: إن جميع الأديان تشترك في سبعة عناصر متماثلة سواء كانت هذه الأديان أو الشرائع سماوية أو ديانات فلسفات أرضية، وهذه العناصر هي:
– كل الأديان تقدم البعد الروائي كيف كانت بداية الكون وكيف جاء الإنسان.
– كل الأديان تقدم البُعد العقدي وتوضح ما القوة التي يجب أن يخضع لها الإنسان، والنتيجة المبنية على الخضوع أو التمرد.
– كل الأديان تقدم تصوراً عن مصير ما بعد الحياة والانتقال إلى العالم الآخر.
– كما تقدم كل الأديان قائمة من الطقوس والأوراد اليومية أو الشهرية أو السنوية، وتختلف هذه الطقوس من ديانة إلى أخرى، وجميعها يسعى إلى تزكية النفس وتهذيبها والارتقاء بها.
– جميع الأديان تنشئ البعد المعياري في النفس الإنسانية ما تفعله وما لا تفعله، وتضع المقياس لما هو الصح والخطأ لكل شؤون الحياة والتصرفات الإنسانية.
– ظهور البعد الإداري لتنظيم شؤون الدين، إذ تظهر طبقة رجال الدين، ودور العبادة، ويصبح هناك مؤسسات دينية وأعمال ومصالح متعلقة بها.
– ظهور العمارة الدينية، فالدين ينشئ نمطاً من العمارة يميزه عن غيره من الأديان.
– البُعد الدعوي، فكل الأديان لها بُعد دعوي ويبشر أتباعها بها، باستثناء الدين اليهودية لأنه دين يكون اعتناقه بالميلاد من الرحم اليهودي، ولا يحق لأي شخص اعتناق هذا الدين إذا لم تكن أمه يهودية.
النماذج والتجارب التاريخية تقول: إن للدين دوراً مهماً في حركة النهوض أو الارتكاس في حياة الشعوب، وكل ذلك يعتمد على فهم الدين وانعكاسه على حركة الحياة، فكما كان الدين الإسلامي سبباً من أسباب الوحدة بين القبائل والشعوب في الجزيرة العربية وإزالة العصبيات القبلية في المدينة، كان الفهم الخاطئ للدين والنصوص المقدسة سبباً في ظهور الخوارج في كل الأزمان؛ ما انعكس ذلك على صورة الدين وقدرته على المساهمة في دور النهوض والاضطراب السياسي، وكما كان للدين الإسلامي دور في تحرير الإنسان من العبودية، فإن الفهم الخاطئ للنصوص أنشأ حالة من شرعنة الاستبداد والحكم الجبري وإحياء النخاسة وأسواق العبيد أيضاً.
كذلك كان الأمر في الفهم الخاطئ للدين المسيحي؛ إذ إن الانحراف في فهم الدين المسيحي جعل من الدين مبرراً لمحاربة العلم والعلماء في العلوم الحياتية بالعصور الوسطى، وتحول إلى منصة لتبرير الاستبداد والحكم المطلق وارتكاس الحضارة الرومانية قبل أن تقوم الثورة الأوروبية الحديثة على الاستبداد وعلى رجال الدين.
كما كان الدين الهندوسي عاملاً من عوامل وحدة الهند ونشر التسامح فيها في زمن ما بعد الاحتلال البريطاني عهد غاندي، الدين الهندوسي اليوم عامل من عوامل الفرقة في الهند وإثارة وتهيئة الأجواء إلى حروب طائفية قد تمزق ثاني أكبر دولة في العالم، كما كان للبوذية دور في نشر التسامح تحول الفهم المنحرف للديانة البوذية والتعصب لها إلى عنصر من عناصر نشر التطرف وإلغاء الآخر والقيام بجرائم ضد الإنسانية في بورما.
النهوض الحضاري محكوم بقوانين مرتبطة بالعمران والبحث عن العلوم وتطويرها وإطلاق حرية التفكير والبحث، كل الأديان لها دور في تشكيل الدافعية للنهوض والتقدم والرقي أو التراجع والتقهقر والارتكاس، وكل ذلك معتمد على فهم النص الديني والتطبيقات التي يمكن أخذ النص إليها؛ هل هي تطبيقات يمكن أن تعزز مفهوم حق الناس في الاختلاف والتنوع، أم تطبيقات تمنع حق الاختلاف والتنوع، هل هي تطبيقات تدعو إلى روح الدين وجوهره، أم تطبيقات تدعو للتعصب الذي يلغي الآخر ويجبره على تلك المعتقدات.
على فضل الخطاب الروحي والديني وأهمية العبادات والالتزام بها في تحسين علاقة الإنسان بخالقه وعلاقة الإنسان بمجتمعه، إلا أن العقائد لا علاقة لها مباشرة في بناء النهوض والتقدم، فمجالها الذي جاءت به هو عالم الأخلاق وتنمية عالم الروح، ولم تتدخل في بناء عالم المادة والأشياء، وإن كان السمو الروحي يمثل دافعية وعاملاً مساعداً ثانوياً في النهوض والتنمية، لكنه لا يمكن له صناعة النهوض والتنمية بمفرده.
ملاحظة: جزء من أفكار هذا المقال جاءت مما أورده د.س جاسم سلطان في محاضرة «في فلسفة الدين».