لكل دين من الأديان ولكل أمة من الأمم ما تتميز به عن غيرها من المعتقدات والعبادات والعادات، ومن أهمّ هذه الأمور الأعياد التي يحتفلون بها، يقول الله في سورة الحج (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ) (الحج: 67)، قال بعض أهل التأويل: إنه عنى به عيدهم الذي يعتادونه، وعن ابن عباس: «منسكاً»؛ أي عيداً (الطبري)، فشرع الله لنا من الأعياد ما يفرحنا دون سفه، وما تستبين به هويتنا دون تقليد، وما ينشر بيننا أريج السعادة والتراحم.
تقول الاستبيانات: إن 74% من الرجال المسلمين في بريطانيا يحضرون صلاة الجمعة (أي حوالي 1.5 مليون)(1)، ولا شك أن نسبة أكبر من الرجال وكذلك النساء والأطفال يحضرون صلاة العيد، مما يجعل العدد يصل إلى 3 ملايين، في حين أن أكبر إحصاء لحضور مسيحيي بريطانيا لعيد الميلاد هو 2.3 مليون (أي ما يعادل 9% فقط من السكان)(2).
بين عيد وعيد
توصلت دراسة جديدة إلى أن 4.5 ملايين سائق في بريطانيا خالفوا القانون من خلال القيادة تحت تأثير الكحول بعد حضور حفلات عيد الميلاد (الكريسماس)، وعاد 1.6 مليون من سائقي السيارات إلى منازلهم بعد أن شربوا عن قصد كميات كبيرة من الخمر، بعد حفلات عيد الميلاد في أكثر من مناسبة، مما يضع أرواحهم وأرواح الآخرين في خطر في العيد(3)، ويموت ما معدله 343 شخصًا في حوادث المرور كل عام في بريطانيا خلال فترة عطلة عيد الميلاد التي تستمر 3 أيام(4).
وفي المقابل، عندما يتعلق الأمر بالأعمال الخيرية، وإحياء النفوس وزرع الفرحة، يتبرع المجتمع المسلم في بريطانيا بأكثر من 500 مليون جنيه إسترليني في العام للقضايا الإنسانية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بريطانيا، وفي شهر رمضان وحده، قبيل العيد، دفع المسلمون عام 2019 ما معدله 38 جنيهًا إسترلينيًا في الثانية(5).
في عيد الميلاد، تزداد نوعاً أعداد التبرع للأعمال الخيرية بحوالي 5%، لكن أحد الأرقام التي وجدت يشير إلى أن تبرع المسلمين يزيد بنسبة 50% خلال شهر رمضان، وفي عام 2020، تشير التقديرات إلى أن مسلمي بريطانيا قد حققوا رقمًا قياسيًا قدره 150 مليون جنيه إسترليني(6).
وفي حين يكون عيد المسلمين فرصة لإدخال الفرحة على الأسرة، والتوسعة على الزوجة والأولاد، في إطار المودة والرحمة، فإن أكثر من ربع النساء البريطانيات قلقات للغاية، من أن يكن ضحية للعنف خلال موسم الأعياد المسيحية، وتقول أكثر من عُشر النساء اللواتي تعرضن لسوء المعاملة أو التحرش إن هذا حدث في أحد حفلات عيد الميلاد(7).
ووجدت دراسة استقصائية أجرتها أكبر شركة محاماة عائلية في بريطانيا أن واحدة من كل ستة ممن شاركن في الدراسة قلن: إنهن كن أكثر عرضة للإيذاء النفسي أو الجسدي من شركائهن خلال فترة عيد الميلاد(8).
وفي أعيادنا، تتراقص في الأعين الفرحة مع التوسعة بالهدايا والمال و«العيدية» للأطفال، قارن ذلك بارتفاع نسبة المقامرين في بريطانيا أيام الكريسماس ليخسروا أموالهم، في إنجلترا، يقامر 24.5 مليون شخص (نصف السكان البالغين) كل عام(9)!
ويعتبر الكريسماس امتداداً للاحتفالات الوثنية الرومانية بالشتاء وبإلههم الأسطوري زحل للخصوبة والزراعة، بمهرجان تُغلق فيه المدارس ويتوقّف العمل، ولا يعاقب المجرمون، وتتعطل القوانين التي تنظم السلوك العام، ويشترك كلّ المواطنين في احتفالات تتميَّز بالعنف والعربدة والانحلال والخلاعة والقمار والغناء ولعب الموسيقى والولائم(10).
عيدنا بالفرح والسرور والذكر والشكر
سمي العيد عيدًا؛ لأنه يعود ويتكرر لأوقاته، وقيل: يعود بالفرح على الناس، وقيل: سمي بذلك تفاؤلًا ليعود ثانية، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم، إذا فازوا بإكمال طاعته وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته كما قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58)، وعن أنسٍ قالَ: قدمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ ولَهم يومانِ يلعبونَ فيهما فقالَ: «ما هذانِ اليومانِ؟»، قالوا: كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّةِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ قد أبدلَكم بِهما خيرًا منهما يومَ الأضحى ويومَ الفطرِ» (رواه أبو داود، صحيح)، وقيل: هما يوما النيروز والمهرجان، وهما عيدان من أعياد المجوس، فلعل بعض العرب أخذوا ذلك عنهم(11).
فأبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر والمغفرة والعفو، يضاف للعيدين في الدنيا للمؤمنين عيد يتكرر أسبوعياً وهو يوم الجمعة، وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات، فكلما دار أسبوع من أيام الدنيا واستكمل المسلمون صلواتهم فيه شرع لهم في يوم استكمالهم الاجتماع على سماع الذكر والموعظة وصلاة الجمعة، وجعل ذلك لهم عيداً.
والعيدان الآخران، فأولهما هو عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مترتب على إكمال صيام رمضان وهو الركن الثالث من أركان الإسلام، فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم واستوجبوا من الله المغفرة، والعتق من النار لمن استحقها بذنوبه، شرع الله تعالى لهم عيداً يجتمعون فيه على شكر الله وذكره وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم في ذلك العيد الصلاة والصدقة، وهو يوم الجوائز يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم ويرجعون من عيدهم بالمغفرة.
والعيد الثاني هو عيد النحر، وهو أكبر العيدين، وهو مترتب على إكمال الحج وهو الركن الرابع من أركان الإسلام، فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم، ويكمل الحج بالوقوف بعرفة وهو يوم العتق من النار، فيعتق الله من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين(12).
فرح العيد إيماناً واحتساباً
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وفي رواية للبخاري: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، ففي هذه الأحاديث الشريفة، يبشر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بمغفرة الذنوب لمن صام رمضان وقامه إيمَانًا وَاحْتِسَابًا.
إيماناً؛ أي تصديقاً وإقراراً وإذعاناً وانقياداً واستسلاماً؛ فصمنا حين صمنا، وقمنا حين قمنا، إقراراً بأن الله تعالى هو الرب المعبود، وأن العبد هو الضعيف المخلوق، وأنه يشرف بهذه العبودية ويحبها ويرضاها ويفرح بها.
واحتساباً؛ أي محتسبين الثواب عند الله تعالى وحده، لا بقصد آخر، فنحن صمنا أيام رمضان وقمنا لياليه، وليلة القدر «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»، فلم يفعل الواحد منا ذلك تقليداً لآبائه وأجداده، ولا مسايرة لأسرته ومجتمعه، ولا إرضاء لمخلوق يحبه، أو يرجوه أو يخاف منه، ولا يصوم لحفظ بدنه من كثرة الطعام، أو ليشفي من بعض الأمراض، بل يصوم ويقوم مخلصاً لله تعالى، ولو أدركه رمضان في أرض ليس فيها غيره، لصام وحده، وقام وحده.
وكل الأعمال لا تقبل إذا خلت من الإيمان أو الاحتساب، ولكن جاء التنبيه هنا على ذلك فيما مظنته ذهول العبد وغفلته عن الإيمان والاحتساب فيه، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «عزمتُ عليكُم أن لا تصلُّوا العصرَ حتَّى تأتوا بَني قُرَيْظة»، فغربتِ الشَّمسُ قبلَ أن يأتوهُم فصلَّت طائفةٌ إيمانًا واحتِسابًا، وترَكَت طائفةٌ إيمانًا واحتسابًا، ولم يعنِّفِ رسولُ اللَّهِ واحدًا منَ الفَريقينِ. (صححه الألباني).
وفرحة العيد أيضاً تكون إيماناً واحتساباً، وفي صباحه يجتمع المسلمون مرة أخرى في صلاة العيد، ليكبروا الله ويحمدوه، بكلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، في جو بهيج، من أخلاق الحب والتكافل والتراحم والصلة، لا تجد له مثيلا بين أمم الأرض.
___________________________
(1) Ipsos MORI, A review of survey research on Muslims in Britain (London: 2018)
(2) Church of England Research and Statistics unit, Statistics for Mission 2019 (London: 2020).
(3) Many motorists may drink drive this Christmas – ‘jeopardises lives’ Daily Express, 24 December 2022.
(4) National Safety Council, Holiday traffic fatality estimate, 2022.
(5) Fundraising.co.uk, An introduction to Muslim giving in the UK, 6 January 2020.
(6) Chairtyexcellence.co.uk, Ramadan, Our UK Muslim Community and Islamic Charities.
(7) Damning poll finds a quarter of women fear violence and abuse this Christmas, Mirror, 13 December 2022.
(8) Women’s charities fear an increase in domestic abuse this Christmas, The Independent, 21 November 2021.
(9) Gambling-related harms evidence review, Public Health England 2021.
(10) Saturnalia, 14 December 2022, https://www.history.com/topics/ancient-rome/saturnalia.
(11) الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل، الساعاتي، دار إحياء التراث العربي، ج6، ص119.
(12) لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ابن رجب الحنبلي، دار ابن حزم للطباعة والنشر، 2004، ص276.