لقد أضحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، وأوليناها الاهتمام الزائد.
فبعد الاستيقاظ مباشرة -وقبل أن نمارس عبادتنا وسائر نشاطاتنا- نمر عليها مرًّا سريعًا أو متمهلاً.
ولا ننام إلا بعد أن نقلِّب صفحاتها قليلاً أو كثيرًا.
وما بين ذلك نغرق فيها، ونستهلك الساعات الطوال دون كلل أو ملل في تصفح مواقعها وبرامجها وصفحاتها.
فهي أصبحت إدمانًا وقع فيه الكبير والصغير والذكر والأنثى على حدٍّ سواء.
وليت هذا الانغماس يكون في النافع المفيد، وليس فيما يجلب الخيبة والخسران في الدنيا والآخرة.
وهذا النافع نجده قليلاً مقارنة بغير النافع، وغير مطروق من الغالبية العظمى من المستخدمين، إلى جانب أن القائمين على تلك الوسائل يتحكَّمون في تلك المواد النافعة ويجعلونها غير رائجة بين المستخدمين.
أما غير النافع -وليس بالضرورة الضار- فهو كثير جدًّا تضيع معه الأوقات والأعمار؛ فهو لهوٌ قد نحتاجه لكسر ملالة النفوس والقلوب، لكن إن أخذ أكثر من حجمه فسينقلب الأمر إلى ضده، ولن نجني أو نرجو من ورائه أي خير.
أما الضار فهو يقع تحت قسمين: قسم الشهوات وقسم الشبهات.
وقسم الشهوة تجد فيه العري والرقص والكلام البذيء والأكل وأشباه ذلك.
وقسم الشبهة تجد فيه الأفكار الضالة والمنحرفة، وأمراض الشبهة مفسدة للعلم والتصوير والإدراك؛ فلا يرى الأشياء على ما هي عليه(1).
وهناك من يكون له هوى فيه شبهة، فتجتمع له الشهوة والشبهة معًا.
وتلك الوسائل أمست منبر من لا منبر له، فالكل صانع محتوى، والكل متابع، فنتجت الفوضى؛ إذ كل شيء متاح لا قيد عليه، وليس هناك مرشد أو موجِّه.
والإشكال أن العقل المشْتبِه إذا اقتنع بشبهةٍ ما وسيطرت على قلبه فإنه يسعى في تطبيقها دون أن يرى فيها أي حرج أو إشكال؛ بل قد يفعلها تقربًا إلى الله تعالى، ويحسب أنه يُحسن صنعًا.
لذا، فإنَّ سيطرة الشهوات على القلوب أهون من سيطرة الشبهات؛ فصاحب الشهوة يعرف حرمة ما يأتي إلا أنه لا يستطيع أن يفارقها، فهو عاص.
أما صاحب الشبهة فإنه لا يعرف أنه مخطئ، بل ويجادل عن شبهته، فهو مبتدع.
لذا، فإن من يبصر الشبهة حين ورودها هو صاحب البصر النافذ والفكر الثاقب، ومن يردع الشهوة عند حلولها هو صاحب العقل الكامل والإرادة القوية.
والأفكار المنحرفة قد تأتي عن طريق المشايخ المعممين، أو عن طريق مدعي العلم، أو عن طريق المتغربين الذين يحذون حذو الغرب ولهم منصات تدعمهم وتعمل على ترميزهم، أو عن طريق الأعمال الفنية التي تدعو لأفكار بعيدة كل البعد عن ثوابت ديننا؛ مثل: تلميع المثليين الشواذ، أو نشر فكر المساكنة بين الرجال والنساء دون زواج وهو المخادنة، أو الدعوة للمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث بدعوى المساواة بينهما، أو ضرب قوامة الرجل بزرع الشقاق في نفس المرأة.. إلخ.
والشبهة تقع في القلب ويبررها العقل فتقلب الحق باطلاً، والمعروف منكرًا، والثابت متغيرًا.
وقد يقع في الشُّبَه خلقٌ من الأذكياء، وبعضٌ من أهل العبادة والإيمان؛ لذا فإن الانحراف درجات، وكذا الشبهات درجات.
والشك والحيرة والضلال من لوازم الانحراف، وهذا ما تسعى إليه بعض المنصات التي تبذل جهدها لحرف المسلمين عن طريقهم المستقيم، وتركهم خلقًا مشوهين عقديًّا وفكريًّا؛ فلا هم عن الإسلام انسلخوا ولا إلى الغرب انتسبوا.
والتجهيل نوع من أنواع الانحراف؛ إذ يتصدر للحديث في قضايا علمية دقيقة أقوام لا علم لهم، وقد يكون لهؤلاء معجبون أكثر من غيرهم من العلماء ذوي التخصص، وقد صدق من قال: «رُبَّ عَالِمٍ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، وَجَاهِلٍ مُسْتَمَعٌ مِنْهُ»(1).
وفي هؤلاء وأمثالهم يقول د. عبدالله معروف: «لو لم يكن لفيسبوك ذنب إلا أنه فتح منبرًا للحمقى الذين يهرطقون بأن الأرض مسطحة لينشروا هذرماتهم ويتباهوا بها لكفاه».
ومن الانحراف أن يتصدر المتعصبون والمتنطعون الذين لم يفهموا الفقه حق فهمه وسائل التواصل الاجتماعي؛ فيضيقون على الناس في مواطن السعة، ويوقعون الناس في الحرج.
ومن الانحراف متابعة أولئك الذين لا همَّ لهم إلا الطعن في علماء الحديث والمرويات النبوية بدعوى أنهم قرآنيون، وقد وصل الأمر بمحمد هداية أن يقول: إن البخاري مؤسسة يهودية وضعت الحديث لتُنسي الناس القرآن!
ومن الانحرافات متابعة الذين لهم تأويلات فاسدة ومنامات غريبة وأحوال شاذة يطلقونها تحت اسم التصوف، والتصوف الحقيقي منهم براء، وهؤلاء قد وصل بأحدهم الأمر أن يزعم أن الصلاة في المسجد النبوي تعدل 200 مليون صلاة، وأن موقع قبر النبي المصطفى ﷺ أفضل من العرش والكرسي، كل ذلك بتأويلات فاسدة واستنباطات شاذة، يلبِّسون بها على العوام من طلبة العلم العجم والعرب على حد سواء.
وقد قال الشيخ قيس الخياري: «ينبغي لروَّاد مواقع التَّواصل أن يتجنَّبوا فوضى المتابعة للشِّيوخ والصَّفحات والمواقع، ويضبطوا برنامج اهتماماتهم وقراءاتهم وتلقِّيهم للعلوم والمعارف والتَّوجيهات والنَّصائح، ولا سيِّما في مجال الدِّين والأحكام والفتاوى، فيقتصرون في ذلك على قائمة مضيَّقة بأسماء من يوثق بعلمهم ودينهم، ومن هو أهل لذلك وعلامته عليه تحذير العامَّة من فوضى التَّلقِّي تلك، وتوجيههم إلى الاقتصار على أخذ العلوم من أهلها بدون مراء أو مخاصمة».
هؤلاء الموثوق بعلمهم هم العلماء الكبار الأمناء الراسخون في العلم، ذوو العقول الوافرة والأفهام الثاقبة والدين الذي يعصمهم من الزلل، المشهود لهم من غيرهم من العلماء الأثبات.
هذا «العالم الذي تبصر وتدرب وعرف الحجة من الشبهة، وتبحر في مواقف الاجتهاد للمعرفة، وانتصب دافعًا بالحق شبه أهل الاعتراض على وجه يترجح به الثقة، ويساعده بالفهم اليقين والمعرفة.
وسمي من قلَّ علمه عاميًّا، ومن جملة العامة، ولسنا نريد بالعامي من لا معرفة له بشيء من العلم بحال»(3).
ومن وقع في الشبهات والانحرافات من العامة علينا أن نرفق بهم، ونحذرهم منها، ونقيم الحجة عليهم ليستبينوا الطريق.
ومن يبث الشبهات والانحرافات من الأشخاص أو المواقع أو المنصات علينا أن نشهِّر بهم، وأن نقف لهم بالمرصاد، ونبطل شبهاتهم بالحجة والبرهان.
إلى جانب ألا نترك الساحة لأمثال هؤلاء لينشروا ترهاتهم كما يحبون من خلال مواقع الإنترنت، بل علينا المزاحمة بصناعة العلماء الربانيين الذين يُصلحون ما أفسده غيرهم، فيكونون منارات هدى يلتجئ إليهم الناس ليبددوا ظلمات الجهل والشبهة والانحراف.
______________________________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (10/95).
(2) مجمع الأمثال للميداني، (1/310).
(3) هذا كلام لابن الزاغوني، درء تعارض العقل والنقل، (4/ 95) باختصار.
باحث في الفكر الإسلامي، مؤلف ومحقق.