ضرب اللهُ الأمثالَ في كتابه العزيز، دلَّ على هذا الكتابُ نفسُه، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت: 43]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[الزمر: 27].
ودلَّ على هذا قوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي عن عليٍّ -رضي الله عنه-: «إنّ الله أنزل القرآن آمِرًا وزاجرًا، وسُنَّة خالية، ومَثلًا مضروبًا».
وتتبَّع ابن القيم أمثالَ القرآن التي تضمّنت تشبيه الشيء بنظيره، والتسوية بينهما في الحُكم، فبلغت بضعة وأربعين مثلًا.
وجرَى على طريقة القرآن في ضرب الأمثال أحاديثُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى رُوي عن عبد الله بن عمر أنه قال: «حفظتُ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ألفَ مَثَل»، وهذا الأثر قد نبَّه نُقَّاد الحديث على عدم صحته، لكن روايته تُشعر بأن الأمثال الواردة في السُّنة ليست بقليلٍ.
وقد عقَد للأمثال النبوية أبو عيسى الترمذي في (جامعه) بابًا أورد فيه أربعين حديثًا.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: «لم أَرَ من أهل الحديث من صنَّفَ فأفرد للأمثال بابًا غير أبي عيسى، ولله درُّه، لقد فتح بابًا، وبنى قصرًا أو دارًا، ولكنه اختطّ خطًّا صغيرًا، فنحن نقنع به، ونشكره عليه».
فللأمثال أثر بليغ في تلقِّي الدعوة بالقبول؛ لذلك أحرزَتْ بين الأساليب التي يتحرّاها القرآن في هدايته منزلةً ساميةً.
المَثل في القرآن:
فإذا رجعنا بعد هذا إلى تعرّف أمثال القرآن المشار إليها بمثل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الحشر: 21]؛ لنعلم ما المراد من الـمَثَل الذي يضربه الله للناس، فهل يراد منه: الشبيه والنّظير؟ أو يراد منه: القول السائر الذي يُشبَّه مضربه بمورده، أو يراد منه الحال، أو القصة الغريبة، أو يراد: المجاز المركب المستعمل على وجه الاستعارة؟
لنا في تحقيق معنى المثل في القرآن نظران:
ننظر أوّلًا في كلام مَن تصدَّوا في علوم القرآن إلى أمثاله، فكتبوا فيها مصنَّفًا مستقلًّا كما فعل أبو الحسن الماوردي، أو عقدوا لها بابًا خاصًّا كما فعل الشيخ السيوطي في كتاب (الإتقان)، وفعل الشيخ ابن القيم في كتاب (إعلام الموقِّعين).
ثم ننظر ثانيًا في بعض معاني الآيات التي استَعمل فيها القرآن كلمة المثل؛ لعلَّنا نعرف بها ماذا يُراد من المثل في استعمال القرآن.
النظر الأول: في كلام مَن بحثوا في أمثال القرآن:
لم يقع بأيدينا تأليف الماوردي في أمثال القرآن، ولكنّ السيوطي نقلعنه: أنه قال: «مِن أعظمِ علوم القرآن علمُ أمثاله، والناس في غفلة عنه؛ لاشتغالهم بالأمثال، وإغفالهم الممثَّلات، والمثل بلا ممثَّل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام».
وهذه العبارة تدلّ على أنه يريد من أمثال القرآن الآيات المشتملة على تمثيل حال أمرٍ بحال أمرٍ آخر، سواء أورد هذا التمثيل بطريق الاستعارة، أم بطريق التشبيه الصريح، وهذا المعنى هو الذي نفهمه من قول السيوطي: «الغرض من المثل: تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد».
ولكن الشيخ السيوطي قسَّم الأمثال إلى: أمثال صريحة، وأمثال كامنة. وأتى للأمثال الصريحة بأمثلة من الآيات المشتملة على تشبيه حال شيءٍ بحال شيءٍ آخر؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}[البقرة: 17].
ثم أخذ في الحديث عن الأمثال الكامنة، ناقلًا لها عن الماوردي، فقال: «وأما الكامنة، فقال الماوردي: سمعتُ أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعتُ أبي يقول: سألتُ الحسن بن الفضل، فقلتُ: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله: (خير الأمور أوساطها)؟ قال: نعم، وأورد آيات تتضمن معنى المثل، منها: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان: 67].
قال: قلتُ: فهل تجد في كتاب الله: (مَن جَهِلَ شيئًا عاداه)؟ قال: نعم، في موضعين: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}[يونس: 39]، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}[الأحقاف: 11].
وجرَى على هذا النحو حتى قال له: «فهل تجد فيه: (لا تَلِد الحيةُ إلا حيَّةً)؟ قال: قال تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح: 27].
وأجد فيما مرّ عليَّ من هذا النوع: أنه ذُكر الظلم في مجلس ابن عباس، فقال كعب: إني لا أجد في كتاب منزل (أنّ الظلم يخرب الديار)، فقال ابن عباس: أنا أُوجِدُكَهُ في القرآن؛ قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}[النمل: 52].
وقال شخص لآخر: أين تجد في القرآن: (الجار قبل الدار)؟ قال: أجده في قوله تعالى: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ}[التحريم: 11].
وبمقتضى هذا يصح لنا أن نقول: من أمثال القرآن الكامنة: (خير الأمور أوساطها)، ومن أمثاله الكامنة: (مَن جهِلَ شيئًا عاداه)، ومن أمثاله الكامنة: (لا تلد الحية إلا حيّة).
إذًا يُعَدُّ من أمثال القرآن في نظر السيوطي والماوردي: أقوال لا تشتمل على استعارة أو تشبيه؛ إذ لا يقول أحد: إنّ في قولهم: (خير الأمور أوساطها)، أو قولهم: (مَن جهِل شيئًا عاداه)، أو قولهم: (الجار قبل الدار) -استعارةً أو تشبيهًا.
فأمثال القرآن لا يستقيم حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو الشبيه والنظير، ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند مَن ألَّفوا في الأمثال، إِذْ ليست أمثال القرآن أقوالًا استعملت على وجه تشبيه مضربها بموردها، ولا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند علماء البيان، إذ المثل عندهم ما استعمل على وجه الاستعارة، وفشا استعماله، ومن أمثال القرآن ما ليس باستعارة، ثم هي أمثال من وقت نزولها، فلم يتحقق فيها إذ ذاك فشوُّ الاستعمال.
وننظر إلى ما سلكه ابن القيم في تقدير أمثال القرآن، فتجده يقول: «فيها -أي: أمثال القرآن- تشبيه شيء بشيء في حُكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسَين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر»، وساق لبيان هذا نحو عشرين مثلًا من القرآن الكريم، وعندما نتأمل في هذه الأمثال، نجد أكثرها واردًا على طريقة التشبيه الصريح؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}[البقرة: 17]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}[يونس: 24].
ومنه ما يجيء على طريقة التشبيه الذي يسميه بعض علماء البلاغة: التشبيه الضمني، أو التشبيه المُكَنَّى عنه؛ كقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12]، إذ ليس فيه تشبيه صريح، وإنما هو تشبيه ضمني؛ نحو:
فإن تَفُقِ الأنامَ وأنتَ مِنْهُمْ فإنَّ المِسْكَ بعضُ دَمِ الغَزالِ
ونجد مِن بينها ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج: 73].
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} قد سمّاه الله: مثلًا، وليس فيه استعارة، ولا تشبيه.
النظر الثاني في استعمال القرآن لكلمة (مَثَل):
يَستعمل القرآن كلمة (مثل) في تشبيه حالِ قومٍ بحالِ آخرين؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}[البقرة: 17]، أو تشبيه حال شيء بحال شيء آخر؛ كقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}[النور: 35] إلى آخر الآية.
وقد يَستعمل القرآن كلمة (مثل) في وَصْف، أو قصة تقع في نفس المخاطب موقع الغرابة، دون أن يكون فيه تشبيه أو استعارة؛ كقوله تعالى: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ..}[الحج: 73] ، على ما بيَّنا آنفًا.
___________________________________________
المصدر: موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين.